نقلاً عن البوابة
ما الذى يفكر فيه مصطفى عبد العظيم سائق التوك توك ( اذا كان هذا هو اسمه من الأساس ) الآن؟ كيف يرى ما فعله بالناس والحكومة والأجهزة الأمنية فى ٣ دقائق فقط؟ ثم كيف تمكن من الاختباء التام فلا يعرف أحد مكانه، وكأنه فص ملح وذاب؟ هل تم القبض عليه كما يردد البعض؟ هل يخفيه بعض أقاربه خوفا عليه من العقاب رغم أن ما قاله لا يستحق أى عقابا على الإطلاق؟
الأهم من هذه الأسئلة التى لا يملك أحد _ أى أحد – إجابة لها على الإطلاق، هو كيف تم نسج هذه القصة إعلاميا؟ كيف خرجت للنور بكل هذه الكثافة المزعجة، والزخم المؤرق؟
نرشح لك : أشهر سائق توك توك في مصر
طبقا للصديق الإعلامى عمرو الليثى، الذى تحدثت معه بعد انتشار ما قاله سائق التوك توك كالنار فى الهشيم، فقد اخترق هذا الشاب _ عمره تقريبا ٣٥ سنة – مكان التصوير، طلب أن يتحدث، فمنحه عمرو الفرصة، كان لبقا ومرتبا ومدركا لما يقوله بصورة مذهلة، دفعت عمرو ليسأله عن مؤهله، فرد بما أصبح إفيها جديدا: أنا خريج توك توك.
أنهى الشاب كلامه، ثم انصرف، دون أن يسأله أحد عن اسمه أو عنوانه، وقد تتعجب من ذلك، لكن هذا ما حدث بالفعل، فهو بالنسبة لعمرو مواطن من آلاف المواطنين، لا يعنى اسمه شئ، بقدر ما يعنى كلامه، وهو صحيح ولا ينكره عليه أحد، وهو ما يفسر سبب إذاعة الكلام ضمن فقرة البرنامج ” الناس بتشتكى من ايه ومن مين ؟ ” وهى فقرة يقدمها برنامج ” واحد من الناس” منذ ٩ سنوات هى عمر البرنامج.
لم ير مقدم البرنامج والقائمين عليه فيما قاله الشاب خطرا على الأمن القومى، ولا مساسا بهيبة الحكومة، ولا انتقاصا من مسئوليات النظام، فمهمة الاعلام أن تترك الناس تتحدث وتفضفض وتعبر عن نفسها، بدلا من ان يموتوا كمدا.
بعد نشر الفيديو تحولت الواقعة الى ما يشبه كرة النار، الجميع يبحث عن صاحبها، المستشار السياسى لرئيس الوزراء تامر عوف تواصل مع عمروالليثى، طلب منه اسم وعنوان الشاب حتى يلتقى به شريف اسماعيل، وكان الهدف المعلن أن يشرح له حقيقة الأوضاع الاقتصادية، لكن عمرو فعليا كما أكد لعوف وأكد لى أيضاً لا يعرف شيئا عن هذا الشاب، وأنا أصدقه.
من جانبنا بحثنا عن سائق التوك توك، وكانت المعلومات التى وصل اليها محررونا أن اسمه محمد جابر، يعمل مدرسا وحماه مدير مدرسة متحفظ عليها لأنها إخوانية، وكان قد انضم لحزب الحرية والعدالة المنحل.
كانت هذه هى المعلومات التى حصلنا عليها، حاولنا تدقيقها، وحتى الساعة السادسة مساء الخميس ١٣ أكتوبر موعد إرسال الصفحات الى المطبعة، لم تكن هناك أية رواية من أى مصدر تهدم الرواية التى بين أيدينا، ولأننى حريص على تدقيق ما أنشره من معلومات، فقد انحزت الى وضع عنوان معبر عن حالة عدم اليقين الكامل فى المعلومات التى لدينا، فوصفتها بأنها معلومات أولية، وأعتقد أن هذه هى المرة الأولى التى تصف صحيفة معلوماتها بأنها أولية، وكانت هذه إشارة واضحة الى أنه من الممكن أن تكون هناك معلومات أخرى، وهو ما حدث بالفعل.
وهنا يمكن أن تكون بينى وبينكم مساحة من التقاطع مهنيا مع ما حدث.
لدى قاعدة مهنية أثبتها فى أحد بحوثى الأكاديمية، تناولت فيه آليات استخدام شبكات التواصل الاجتماعى كمصدر فى التغطيات الإخبارية، تقول: لا تنشر الصحف ما حدث، ولكن تنشر ما تقول المصادر أنه حدث، وكان هذا ما تم عندنا بالتحديد، فنحن لم ننشر حقيقة سائق التوك توك، ولكن نشرنا ما قالت مصادرنا أنها حقيقته، ولا أعفى نفسى من المسئولية عن عدم دقة المعلومات التى وصفتها بأنها أولية، لكنى أقر واقعا فقط.
بعد ساعات من نشر ما لدينا، سارعت المواقع الاليكترونية فى البحث عن سائق التو توك، وكان ان وصل موقع مصراوى وموقع فيتو الى عدد من أقارب وأهل السائق، وتحصلوا منهم على معلومات، لن أقول أنها حقيقية أيضا، ولكنها تظل معلومات منسوبة إلى مصادرها، تقبل التشكيك الكامل وتستحق البحث والتدقيق.
لا أشكك فى مجهود الزملاء الذين حصلوا على هذه المعلومات، ولا فى حسن نيتهم، لكننى لا أستطيع أن أتجاهل السؤال الذى طرحه أحد المتابعين لشئون الاعلام فى مصر، قال لى: لماذا فى رأيك لم يصل أحد من وسائل الاعلام كلها الى عنوان سائق التوك توك وأقاربه الا مواقع الكترونية تابعة لرجل الأعمال نجيب ساويرس؟
يتحمل محدثى الدلالات التى يحملها سؤاله، خاصة ان ملاحظته صحيحة مائة بالمائة، فوصول مصراوى وفيتو له زاد من غموض الأمر الذى تعقد تماما، بعد اختفاء صاحب الواقعة نفسه.
لا أشكك فى نوايا نجيب ساويرس، ولا أبحث له عن اى دور فى هذه الأزمة، ولا أشكك فى دوافع من ذهبوا وابحثوا، فكلنا فعلنا ذلك، ولكنى أثبت واقعا صعب تجاهله، أو التعامل معه كأنه لم يكن.
وهنا محاولة بحث جديدة عنه.
تحول سائق التوك توك الى ما يشبه الشبح، أو اللهو الخفى، بعضهم نشر صورة غير واضحة المعالم لأسرة مكونة من رجل وإمرأة وولد وبنتين، وقالوا أنها لسائق التوك توك على يخت فى شرم الشيخ، ربما فى إشارة الى أنه ميسور الحال، وأن ما حدث ليس أكثر من تمثيلية، فلو كان حاله كما قال، فما الذى ذهب به الى شرم الشيخ؟ ، لكن تأكد لنا أن الصورة ليست له، فلديه ولدان، وليس ثلاثة، وهو ما نشرناه ضمن معلوماتنا الأولية.
مراسلة صحفية من الغربية أشادت بأخلاقه، وقالت أنه أحد جيرانها وأنها تعرفه جيدا، لكن هذه الرواية لم تصمد أمام ما قاله من أدعى أنه بلدياته، وأنه عرفه من اللحظة الآولى عندما شاهد الفيديو، وجزم بأنه أحد أبناء قرية الكوامل فى سوهاج، لكن صفحات أبناء سوهاج المنتشرة بغزارة على شبكة التواصل الاجتماعى الفيس بوك، لم تشر اليه من قريب أو بعيد، وهى الصفحات التى اهتمت بالموضوع، ولو كان سوهاجيا لقالوا ذلك دون تردد.
أحد العارفين بخريطة الصعايدة فى القاهرة قال لى، أن حكاية انتماء سائق التوك توك الى قرية الكوامل ربما تأتى لأنه عمل فى سوق روض الفرج مع تجار الخضار، وأغلب هؤلاء التجار من قرية الكوامل، لكن التحريات التى قامت بها جهات أمنية، وسألت خلالها تجار فى سوق العبور وبعضهم يعرف سائق التوك توك تشير إلى أحدا منهم لا يعرف بلده ولا من أين جاء، خاصة أنه بعد انتقال سوق روض الفرج الى العبور، انفصل عنهم وذهب ليقيم فى مدينة الشباب ب ٦ أكتوبر، واشترى توك توك مع صديق له وعمل عليه.
كلام تجار روض الفرج السابقين لا يعنى أنهم قالوا الصدق، فقد يكون خوفهم على صديق سابق هو ما دفعهم الى الإنكار والتملص من أى معلومات صحيحة عنه، اعتقادا منهم أنهم يحمونه، رغم أنه فعليا ليس مهددا بشئ.
واقعيا لدينا الآن واقعة شغلت الناس دون أن يكون لبطلها أى أثر، وهو ما يجعلنى أتشكك فى كل المعلومات المنشورة عنه، حتى لو قال لنا من حصلوا عليها أن أصحابها أقاربه أو معارفه.
لقد قلنا أنه كان عضوا فى حزب الحرية والعدالة الذى كان ذراعا سياسيا لجماعة الاخوان الإرهابية، ونحن ندرك تماما دلالات ذلك، وعليه لم نقل أنه ينتمى الى الاخوان، فقد هرول مصريون كثيرون للانضمام لحزب الاخوان باعتباره الحزب الحاكم الذى يعتبر الانتماء اليه مكسبا، دون ان يكون كل الأعضاء من بين أبناء الجماعة، وأعتقد أن محاولة نفى هذا الانتماء الحزبى عنه كان محاولة لتخليصه من ورطة اعتقد أقاربه أنه أوقع نفسه فيها.
لقد قاد الاهتمام به والبحث عن مكانه الى الاعتقاد أن الأجهزة الأمنية تريد القبض عليه، رغم أن هذا ليس واقعيا على الاطلاق، فهو لم يرتكب أى جريمة من أى نوع، مجرد مواطن قال رأيه بصراحة، دون أن يختلف فى قليل أوكثير عما يقوله مواطنون آخرون فى الاعلام وعلى المقاهى وفى الشوارع والبيوت، لكن الذهنية المرتبكة للبعض هيآت لهم أنه مطلوب أمنيا، وهو ما يفسر كلام أقاربه عن انتخابه للرئيس السيسى، وعدم انتماءه لجماعة الاخوان المسلمين، وهو ما لم نقله أو يقوله أحد.
تبقى الدلالة السياسية لما حدث.
والسؤال: ما الذى قاله سائق التوك توك وكان سببا فى كل هذه الضجة؟
قال كلاما عاديا ليست فيه إدانة لنظام الحكم الحالى، بل أدان ربما كل الأنظمة التى توالت على حكم مصر خلال العقود الماضية، فما نعانيه الآن ليس محصلة لعامين حكم فيهما السيسى، وليس من العقل أن يقول ذلك أحد، لكن الواقع يشير إلى أن الشكوى وجدت صدى لدى كثيرين لأن الكل يشكو.
المنطق يقودنا كذلك الى القول بأن الفيديو الذى لم يستغرق أكثر من ٣ دقائق تم استغلاله سياسيا من قبل جماعة متربصة بنا، أشعلت النار به وفيه، رغبة منها فى تصدير صورة عن الغضب الشعبى الذى لابد أن يقوم حتى لا يبقى ولا يذر، وهى خطة إخوانية لا ينكرها الا جاحد، ولا يخاصمها الا من غفل عن تحديات كثيرة تواجهها مصر الآن.
المفارقة أن ما قاله سائق التوك توك سبق وقاله رئيس الدولة نفسه، ألم يقل أننا نعيش فى شبه دولة؟، ألم يقل أنه كلما وضع يده فى مكان وجده خرابا كاملا؟، ألم يقل أن الشعب يجب أن يتحمل معه الأزمات الاقتصادية حتى نعبر بسلام ما نعانيه معا؟، ثم أن مسئولين آخرين قالوا نفس الكلام وبصياغات مختلفة، ولذلك أشفقت على من قالوا أن الفيديو زلزل عرش السيسى، فهذا لم يحدث، لسبب بسيط أن السيسى نفسه يعرف ما يقوله الناس وما يعانون منه، لا يتعالى عليه، ويحاول أن يقدم حلولا، قد ترى ما يقوم به منقوصا أو غير مجدى، لكنه فى النهاية يعمل.
لقد قال أقارب سائق التوك توك أنه ” طهقان” من الظروف الاقتصادية، وأنه لم يقل ما قاله الا تعبيرا عن هذه الحالة، وأنا أصدقهم تماما فيما قالوا، كثيرون بالملايين مثله، بعضهم يتمسك بالشكوى، وبعضهم يعمل حتى يخرج من جحيمه، فلم يقل أحد منا أن مصر جنة ويجب أن يعيش فيها كما هى، لكننا جميعا نسعى الى تغيير ما نعانيه.
إننى مع من قالوا أن الاهتمام يجب أن ينصب على ما قاله سائق التوك توك، وهو بالمناسبة يمثل جزءا من الضمير الحى لهذا الوطن، بصرف النظر عمن هو، فلا يهمنا اسمه ولا عنوانه، ولا انتماءه السياسى، فهو مواطن مصرى فى النهاية؟
لكن السؤال: هل كان ما قاله سائق التوك توك جديدا علينا؟ هل قال شيئا لا نعرفه او نحس به أو يواجهنا كل يوم فى الشارع؟ هل وضعنا مثلا أمام حقيقة نتجاهلها او لا نبحث عن أسبابها ونسعى الى مواجهتها؟ كان ما قاله عاديا ومعروفا جدا، لكن الأزمة أننا تحولنا الى أباطرة كلام نلوكه فى أفواهنا دون أن نبحث عن حلول حقيقية للخروج من مأزقنا.
لقد طلب رئيس الوزراء لقاء سائق التوك توك لا ليطيب بخاطره، أو يزيل معاناته بشكل فردى شخصى، ولكن ليضع أمامه وأمام غيره التحديات التى تواجهها الحكومة، وهى تحديات حقيقية، وهو ما يجب أن نعترف به، حتى لو كانت لدينا ملاحظات على آداء الحكومة، فوظيفتها أن تواجه التحديات وتزيلها لا أن تشرحها للناس، وذلك ببساطة لأن الناس لا يعرفون هذه التحديات فقط ولكن يكتوون بنارها كل يوم.
هل بقى شئ ؟
بقيت أشياء كثيرة بالطبع، لكن ما أحب أن أثبته هنا هو أمر خاص بالعلاقة بيننا وبين النظام الحاكم رئيساً وأجهزة سيادية وحكومة.
فعندما خرج ملايين المصريين فى ٣٠ يونيو ليزيلوا نظام الاخوان، كانوا يسعون الى اختيار نظام جديد، نظام يخرجهم من ورطتهم ويحافظ عليهم، وكان هذا النظام الذى يقف على رأسه عبد الفتاح السيسى واضحا كل الوضوح فيما سيفعله، قال أنه لن يتحمل المسئولية وحده، بل يجب أن يعمل الجميع معه، لم يعد بجنات تجرى من تحتها الأنهار، فإذا بنا نجد أنفسنا فى صحراء قاحلة لا زرع فيها ولا ماء، وعد بأن تكون مصر قد الدنيا، واضعا فى اعتباره أن يضع الجميع أيديهم فى يده، فهو لن يستطيع وحده، لكن لم يتحقق له شيئا مما تخيل، تعامل معه المصريون على طريقة بنى اسرائيل مع موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون.
هذا النظام اختيارنا، بعضنا آمن به ولا يزال، وهؤلاء يدعمونه أملا فى غد أفضل، وبعضنا آمن به ثم كفر، وهؤلاء تحولوا الى وحوش ضارية، لم يلتفتوا الى أنهم من اختاروا، ويجب أن يدفعوا ثمن اختيارهم، والثمن ليس كلاما او تشجيعا شفويا أو سخرية لا تنقطع، بل عمل كل فى مجاله.
لا أحب ارتداء ثياب الواعظين، لكن حالنا وما نعانيه يحتم علينا أن نلتفت حول هدف واحد، وهو الا نعود الى نقطة الصفر، لأننا سنكون مثل من يريد إغاظة إمرأته فيخصى نفسه… فى الحالتين لن يربح شيئا، فغيظه لن ينقضى وانتقامه لن يتحقق.
سيظهر سائق التو توك فى أى لحظة، فلا هو مطلوب أمنيا من أى جهة، ولا هو يمثل خطرا، ويمكنه بعد ذلك أن يعيش حياته بشكل عادى جدا دون منغصات، اللهم الا منغصات أزمتنا الاقتصادية التى نسعى الى الخروج منها، لكن سيبقى أننا مجتمع هش متهافت تزلزلنا كلمات عابرة من مواطن مأزوم، وكأننا أصبحنا نخاف من خيالنا، ولا نملك قرارنا لنكون كما نريد.