كان الحل المنطقى والعملى هو بالضبط ما فعله يحيى الفخرانى بطل مسرحية (ليلة من ألف ليلة) عندما لم يلغ العرض بمجرد أن علم من مدير المسرح يوسف إسماعيل بتواجد السفير الإسرائيلى ديفيد جوفرين بين الجمهور، وبالطبع لم يستقبلوه ولكنه دخل إلى المسرح مثل أي زبون يقطع تذكرة، فقط منعوا دخول الحراسة المسلحة التي تصاحبه لأن هذا يتعارض مع تقاليد المسرح القومى العريق، بينما كان أغلب فنانى المسرح يريدون إلغاء العرض احتجاجا. الفخرانى قال لا يمكن أن أضيع فرحة الجمهور، حيث كان العرض مواكبا لانتصار أكتوبر، وهكذا أذاع مدير المسرح قبل بداية المسرحية السلام الوطنى، وألقى كلمة مهنئا الشعب المصرى بذكرى انتصارنا على إسرائيل.
لا يمكن تصور بداية أن السفير الإسرائيلى ينطلق بحرية مطلقة في البلد بدون أن تدرى السلطات الأمنية عن تحركاته شيئا، الرجل والذى كان قبلها سفيرا في المملكة الأردنية يجيد العربية وله دراسات متعددة بينها واحدة عن ثورات الربيع العربى، المفروض أن هناك حراسة للتأمين تعرف بالضبط أين يتجه السفير في اليوم التالى، ولكننا نكتشف أن مدير المسرح وكبار العاملين في قطاع المسرح، لم يتم إبلاغهم بأنه سيأتى للعرض، فهو متواجد على أرض مصر بحكم أن لإسرائيل سفارة تُطل على النيل بعيدا عن كونك مثلى تعترض على ذلك فهذه قضية أخرى. لا مصافحة ولا اهتمام هذا ما فعله الجمهور والفنانين ولكن بالطبع من الناحية القانونية لا يملكون انتقاء من يدخل للعرض، وتكتشف أنها لم تكن الأولى، سفير إسرائيل السابق شاهد العرض أيضا، ويبدو أنه رشحه للسفير الحالى، أتصور أن توقيت المشاهدة في ذكرى العبور هو الذي حرك مشاعر الغضب.
علينا أن نضع خطا فاصلا بين أن يأتى إسرائيلى لبيتك فترفض استقباله، وبين أن يدخل إسرائيلى لسوبر ماركت يشترى فاكهة فترفض أن تبيعها له، مع التأكيد أننا نرفض الإسرائيلى، ولكن يجب أن نضيف أن هذا الموقف لا ينسحب أبدا على الديانة اليهودية.
إسرائيل تحاول اختراق الجدار الصلب الذي أقامه المثقفون العرب بمبادرة من مصر بعد اتفاقية (كامب ديفيد)، قال المصريون ومن بعدهم المثقفون العرب لا للتطبيع الثقافى، ولكن ومنذ عام 1979 لم تتوقف إسرائيل عن طرق الباب، حدث مرة قبل 7سنوات أن استبعد مهرجان القاهرة السينمائى الدولى عرض الفيلم الإسرائيلى (زيارة الفرقة) وذلك في أعقاب عرضه في مهرجان (كان) في قسم (نظرة ما) برغم أن الفيلم على المستوى الفكرى منحاز للشخصية المصرية إلا أنه يشير أيضا إلى التطبيع، الفيلم والذى تجرى أحداثه داخل إسرائيل من خلال فرقة تابعة لموسيقى الشرطة المصرية ضلت طريقها بعد أن هبطوا في تل أبيب فالتقى أفرادها إسرائيليين يعشقون كل ما هو مصرى من الطعمية والنكتة الحراقة إلى أم كلثوم وليلى مراد.
كان الهدف المباشر هو تمرير دعوة للتطبيع بين مصر وإسرائيل، شاهدت الفيلم في مهرجان (كان) ولكنى رفضت عرضه في مصر أو في أي بلد أو مهرجان عربى آخر، لأننا لا نحكم على العمل الفنى الإسرائيلى لو كان لصالحنا فكريا نعرضه لو وقف ضدنا نرفضه، إننا في الأساس نرفض الخضوع لأى محاولة للتطبيع الثقافى، وذلك تطبيقا لقرار اتحاد الفنانين العرب واتحاد النقابات الفنية في عالمنا العربى، ناهيك أن أكثر من نقابة لديها قرارات مماثلة أصدرتها بالإجماع الجمعيات العمومية.
إسرائيل تُدرك جيدا أن حائط الرفض الصلب في مصر أجهض عشرات من المحاولات السابقة، وكان من بينها رفض عرض الفيلم الإسرائيلى في المهرجان، ودافع بعض أصحاب الأقلام عن العرض، ولهذا تم تمريره في أحد الفنادق الكبرى وحضر الفيلم الإسرائيلى عدد من المثقفين المصريين لم يتم ذكر سوى اسمى، أنيس منصور وعلى سالم، والباقى تحسبا للغضب المرتقب حرصوا على السرية.
هناك ما يشبه الإجماع على الرفض ولكننا نعلم أن هناك قلة تحاول اختراق الصف، يجب أن نذكر أن مثلا مهرجان القاهرة برغم أنه يتبع الاتحاد العالمى للمنتجين والذى يمنع تماما أن تصبح السياسة عنصرا فعالا وأساسيا في اختيار الأفلام أو تحديد الجوائزـ إلا أنه تفهم الموقف المصرى ولهذا لا تشارك إسرائيل طوال تاريخ المهرجان منذ انطلاق الدورة الأولى عام 1976، كان الإسرائيليون يعتقدون أن الأمر مرتبط باسم سعد الدين وهبة، رئيس المهرجان، والذى كان يصنف باعتباره أحد الصقور العرب في رفض التطبيع مع الكيان الصهيونى، ولكن التجربة أثبتت أنه قرار مثقفين نعم ولكن الدولة نفسها تمنحه ضوءا أخضر، والدليل أن حسين فهمى في أول دورة يرأسها لمهرجان القاهرة السينمائى عام 99، أعلن أنه لن يقبل أن يعرض في إطار المهرجان رسميا أو على الهامش أي فيلم تشارك إسرائيل في إنتاجه.
العلاقة مع إسرائيل سياسيا تشبه تماما الخط السياسى الذي رأيناه في فيلم (السفارة في العمارة) فهى متواجدة وباردة، ولكن لا يحق للسفير أن يقتحم بيتا في العمارة مثلما فعل لطفى لبيب الذي أدى دور السفير، وطرده عادل إمام من بيته، إلا أنه لم يستطع أن يطرده من العمارة، لا أهلا ولا سهلا فهو بالنسبة للمصريين (سفير جهنم)، حتى لو صفق في نهاية العرض ليحيى الفخرانى وأبطال مسرحية (ليلة من ألف ليلة)!.