بعد كان لها الدور الأهم في “ثورة الياسمين” وصياغتها لسطور تغيير فَصَل بين عصرين، باتت وسائل إعلام ما بعد الثورة بتونس مهددة بالأفول بسبب تحديات مالية، وقفت الحكومة منها موقف المتفرج في مرحلة الانتقال الديمقراطي.
بعد كان لها الدور الأهم في “ثورة الياسمين” وصياغتها لسطور تغيير فَصَل بين عصرين، باتت وسائل إعلام ما بعد الثورة بتونس مهددة بالأفول بسبب تحديات مالية، وقفت الحكومة منها موقف المتفرج في مرحلة الانتقال الديمقراطي.
منذ العاشر من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي دخلت أمل الهذيلي الصحافية في “راديو كلمة” الخاص وزملاؤها في “اعتصام مفتوح” بمقر الراديو في العاصمة تونس، بعد أن أبلغتهم الإدارة في اليوم نفسه أنها ستسرّحهم لـ”صعوبات مالية”. ومنذ ذلك التاريخ توقف الراديو عن بث أي برامج مقتصراً على إذاعة الموسيقى فقط.
تقول أمل في مقابلة معDW عربية: “بعد انتقال الإذاعة إلى مالكين جدد وانطلاقتها في نسخة جديدة في يونيو 2015، كنا 80 صحافياً وتقنياً، ثم تناقص العدد بعد طرد أو مغادرة كثيرين، واليوم لم يبق سوى 10 صحافيين وتقننين تريد الإدارة تسريحهم دون تمكينهم من حقوقهم القانونية”. ومؤخرا، تمّ تعيين إدارة جديدة للراديو لم يتسن لـDW عربية الاتصال بها.
وفي 2008، أسست الناشطة الحقوقية سهام بن سدرين “راديو كلمة” الذي كان أول إذاعة معارضة لنظام زين العابدين بن علي تبث من تونس عبر الإنترنت قبل أن تغلقه السلطات بالقوة. وباعت بن سدرين في 2015، حصتها في الإذاعة لرجال أعمال تونسيين.
من “الطفرة” إلى “الاندثار”
وفق خبراء في الإعلام، فقد شهدت تونس بعد الثورة “طفرة” إعلامية لافتة، إذ نشأت مئات بين جرائد ومجلات ومواقع إلكترونية، وعديد التلفزيونات والإذاعات الخاصة، لكنها لم تعمّر كثيراً إذ بدأت في الإغلاق الواحدة تلو الأخرى، بعد أن أفلست وطردت مئات من الصحافيين والتقنيين.
وفي الأشهر الأخيرة، تصاعدت وتيرة الطرد الجماعي لصحافيين بوسائل إعلام خاصة، ففي 11 مايو/ أيار 2016، سرحت جريدة “التونسية” 21 صحافياً وتقنياً بعد توقفها عن الصدور بسبب أزمة مالية حادة.
وللسبب نفسه طردت في يوليو/ تموز الماضي جريدة “الضمير” اليومية المحسوبة على حركة النهضة الإسلامية، نحو 20 صحافياً ثم تحولت إلى جريدة “أسبوعية” لضغط التكاليف.
وفي وقت سابق، أغلق تلفزيون “المتوسط” المحسوب على حركة النهضة، في حين تعيش محطة TNN، وهو أول تلفزيون إخباري خاص في تونس، “أزمة مالية حادة قد تدفعها إلى تسريح الصحافيين” وفق صحافي بالقناة طلب عدم نشر اسمه.
فاهم بوكدّوس، المدير التنفيذي لنقابة الصحافيين التونسيين، وهي هيئة مستقلة، قال لـDW عربية: “بين مايو 2015 ومايو 2016 فقط، أحصينا طرد 160 صحافياً وتقنياً في وسائل إعلام خاصة تأسست بعد الثورة وتأخّراً في صرف رواتب 300 آخرين”.
وحذر بوكدّوس من “خطر اندثار جيل كامل من وسائل الإعلام الجديدة التي وُلدت بعد الثورة وما سينجم عن ذلك من تشوّه تنوع المشهد الإعلامي في تونس(..) لأنه لا يمكن أن تحصل تجربة انتقالية ولا ديمقراطية بدون تنوع المشارب الفكرية داخل الخطوط التحريرية لوسائل الإعلام”.
“عدم مراعاة مقومات الديمومة”
الدكتور صلاح الدين الدريدي، الأستاذ الجامعي في الإعلام، أرجع ظاهرة “الإغلاق المستمر” لوسائل الإعلام التونسية التي نشأت بعد الثورة إلى “عدم مراعاتها، عند بعثها، مقومات الديمومة” و”ضيق” سوق الإعلانات في تونس.
وقال الدريدي لـDW عربية إن وسائل الإعلام التي أغلقت “قامت على أسس هشة على جميع الأصعدة، وخاصة على مستوى حجم الاستثمار(..) والإدارة والتخطيط الإعلامي”.
واعتبر أن عمل الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال( رسمية) التي أحدثتها السلطات بعد الثورة “غلبت عليه المقاربة السياسية واتسم بالتسرع وغياب العمق والشمولية في التصورات(..) في مجال الانتقال الإعلامي” ولم يأخذ بعين الاعتبار “وجوب التعامل مع القطاع باعتباره صناعة له شروطها ومقوماتها”.
ويؤكد فاهم بوكدوس أن “باعثي كل الإذاعات والتلفزيونات الخاصة التي ظهرت في تونس بعد الثورة، باستثناء الإذاعات الجمعياتية والجهوية، مرتبطون بشكل وثيق برؤوس أموال وأحزاب لها أجندات حزبية وانتخابية” وأن وسائل الإعلام التي بعثها هؤلاء “لم تراع عند تأسيسها شروط الديمومة” وأنها “تأثرت بنضوب التمويلات التي كانت تُضخّ إليها”.
ويمنع القانون التونسي أعضاء الأحزاب السياسية من إدارة أو تملّك الإذاعات والتلفزيونات الخاصة.
وقال مسؤول بالتلفزيون الرسمي، طلب عدم نشر اسمه، إن أغلب الشركات التي بعثت وسائل إعلام خاصة في تونس بعد الثورة “هي شركات واجهة تتخفّى وراءها أحزاب تريد استعمالها لخدمة أجنداتها السياسية والانتخابية”.
“مسؤولية الدولة”
شدد فاهم بوكدّوس على أن “الدولة مسؤولة خصوصاً في هذه المرحلة الانتقالية على ضمان تنوع المشهد الإعلامي في تونس، مذكراً “بأن نقابة الصحافيين اقترحت منذ2011 بعث صندوق مموّل من الدولة لدعم الصحافة الورقية والالكترونية والإذاعات الجهوية والجمعياتية”.
وأضاف: “اقترحنا أيضاً على الحكومة إعفاء الإذاعات الجمعياتية والجهوية من الضرائب لمدة خمس سنوات ثم في مرحلة ثانية إعفاءها من دفع تكاليف الترددات الراديوية الباهظة” و”طالبنا ببعث وكالة لتوزيع الإعلانات الحكومية على الصحافة الالكترونية والمطبوعة”.
وتبلغ قيمة هذه الإعلانات 18 مليون دينار تونسي (حوالي 8 ملايين يورو)، “وهو مبلغ يكفي، إن تم توزيعه بشكل عادل، لضمان الديمومة الدنيا لوسائل الإعلام المطبوعة والالكترونية وحمايتها من الاندثار”، وفق فاهم بوكدوس.
ولاحظ بوكدوس أن توزيع الإعلانات العمومية “ما زال يدار حتى اليوم بنفس الطريقة الزبونية” التي كانت معتمدة في عهد بن علي وأن أغلب وسائل الإعلام التي تحصل على الإعلانات العمومية اليوم نشأت قبل الثورة و”استفادت من الدعم السياسي والمالي” لنظام بن علي.
وتوقع بوكدوس أن “تغلق وكالات الإشهار المقرر إحداثها، الباب بشكل نهائي أمام التوزيع الزبائني والمصالحي للإشهار العمومي”.
وأفاد أن نقابة الصحافيين “طالبت بضبط توزيع الإعلانات العمومية بمعايير صارمة أهمها احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للصحافيين، أي أن المؤسسة التي لا تحترم هذه الحقوق تحرم مباشرة من الإعلانات، وباحترام المؤسسات الإعلامية لأخلاقيات المهنة الصحفية”.