قادني الحظ السعيد أن أركب خطوط المترو الثلاثة في يوم واحد ، بل في ساعة واحدة علي التوالي، الثالث والثاني ثم الأول، لا أستطيع أن أركب المترو مرة دون أن أكتُب عنه، لكنّها المرة الأولي التي أركب فيها الخطوط الثلاثة مع بعض، هناك عند الفرارجي ماكينة متوسطة الحجم، قريبة الشبه بالغسالة ، تلك التي يرمي فيها الفرارجي الدجاجة، ثم تسمع صوتًا مُدويًا يشبه أيضًا للغسالات القديمة وقت العصر، هذا هو وجه الشبه عندي بين المترو وماكينة تنظيف الدجاج، خلاط ولكن بحجم كبير، أحداهما خلاط الدجاج، والثاني خلاط بشري مذهل، كلاهما يصدر ضجيجاً وإزعاجاً، شر لابد منه، أشعر بنفس الدوار والشقلباظ في المترو كما الدجاجة، لكنه ملهم بحق، تجربة تستحق الدراسة، كيف تحشر ملايين المصريين يوميًا ثم تراقب تصرفاتهم، هنا العين التي تري ليست مجردة، بل عين فاحصة متأنية تتخطي الفعل السطحي ومصمصة الشفايف، اسحب سمعاتك واذهب لمسار تشغيل الموسيقي في هاتفك، اشعل فيروز أو أم كُلثوم، أيوا … اشعلهم كما تقوم بتقريب عود الكبريت من الشمعة، ثم انطلق، راقب الوجوه بصورة متحركة دون صوت ، بائع المحافظ وحافظات بطاقات الهوية، الكشاف السحري، المحلل السياسي صاحب النظارة المقعرة، حركات الأيدي والإشارات، التشويح، الزق، الإندفاع الجمعي في محطات “الشهداء، العتبة، جمال عبد الناصر”.
نظرات حمدي الوزير وأفكارها، هي الستات دي بتركب عربيات الرجالة ليه، مبيركبوش عربية السيدات ليه، يصمت ويصمت الكل، ربما كسلاً عن قضية ليست ذات أهمية تُذكر، عربة السيدات التي يرتفع بعض أقدام الرجال حين تأتي علي الرصيف، الفترة تلك الدقيقة التي تقف فيها العربة غير كافية لرفع المساحات وتصوير تفاصيل كل تلك الأجساد الأنثوية المحشورة بالداخل، لو اعتبرنا أننا علي الفيسبوك الآن فإنه يشعر بالحنق والغيظ، لكن محدش بيبات من غير عشا، سيركب البعض منهم في العربات العامة وسينتفض من مكانه لكي يُجلسها، وبقدر ضيق ملابسها أصبحت فرصها في الجلوس أكبر من غيرها من الإناث حتي يقف أمامها أكبر وقت ممكن، الأطفال الذين يعبثون بكل شئ، احساس السلم الكهربائي العجيب، السلم في حد ذاته ليس عجيباً العجيب هو احساسك الداخلي، أنت صاعد والسلم الآخر هابط والصاعدين والهابطين يتبادلون نظرات البلاهة المجرد، نظرة غير مفهومة، نظرة تعني اللاشئ ، لاحزن ولا فرح ولا كره لا حب، تلك النظرة التي يتبادلها ركاب الاتوبيس مع المارين بالشوارع، وركاب السيارات الملاكي لركاب السيارات الأُجرة، ربما ليست نظرة بلاهة ، ربما كانت عميقة دون أن ندري، ربما كانت اطمئنان علي بعضنا البعض، كأنها تعني: أنت لسه عايش رغم كل الأحداث والأخبار! فيشير إليك بنفس الصمت العميق: هروح فين اديني عايش..
المترو وحدة قياس السلوك الجمعي، وحدة قياس الصبر في دولة مثل مصر، وبالتأكيد وحدة قياس التطور المجتمعي، قصات الشعر، الموضة من بناطيل مقطعة وصولاً لوضع تذكرة المترو في الحجاب، المترو وحدة قياس المجانين في نعيم، وخالتي بتسلم عليك وسلملي علي جوزك يا إسماعين بيه، تضع إحداهن الهاتف داخل الطرحة وتظل تتحول عاطفياً ألف مرة في الدقيقة الواحدة، من ابتسامة خفيفة، لضحكة، ثم نظرة صامتة،ثم غضب، ثم تشويح….ثم سحب الموبايل من داخل الطرحة بنظرة شريرة شبه منتصرة ولسان حالها “قطعوا الرجالة وقطعت سيرتهم” لحظات التغيير، كإنك خارج من مبارة حامية الوطيس، تريد أن تسلم علي الشخص الصاعد مكانك وتأخذ علي يديه.
.
في رحلة العودة قد سئمت من المترو وتمردت عليه فمكثت عالقاً في صلاح سالم لما يقارب الساعتين فتذكرت المثل الشهير “اللي ميرضاش بالخوخ يرضي بشرابه” !