توفي في برلين الفنان التشكيلي السوري مروان قصاب باشي عن عمر يناهز الـ82 عاماً، يعد قصاب باشي من أهم رواد الحركة التشكيلية في سوريا وامتدت مسيرته الفنية عقودا من الزمن في ألمانيا.
لن تحمل لوحة أخرى جديدة توقيع “مروان” كما كان يحب أن يوقع لوحاته، فقد غيّب الموت في برلين يوم الأحد 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 الفنان التشكيلي السوري مروان قصاب باشي أحد أهم وجوه الحركة التشكيلية في سوريا، والذي امتدت مسيرته الفنية في ألمانيا منذ ستينيات القرن الماضي.
ولد قصاب باشي في دمشق في العام 1934 لأسرة بورجوازية دمشقية في بيت تقليدي غني بالزخارف، ساهم في تنمية حساسيته تجاه الألوان، وفي دمشق أيضاً التقى بأحد أهم دعائم الحركة التشكيلية السورية الحديثة نذير نبعة وعمل معه وعدد آخر من الفنانين على تطوير الحركة الفنية قبل تأسيس كلية الفنون الجميلة بسنوات، حيث بقيت دمشق موضوعاً أساسياً لأعماله التي تخللها الكثير من الزخرفة والارابيسك، حيث تحدث عن تلك الفترة عدة مرات: “كنت أرسم وأمشي في شوارع دمشق، وأتلصص مساء من شباك مفتوح على تلك اللوحات القريبة أو البعيدة المعلقة في مرسم نصير شورى، في تلك الأيام، حيث لم يكن في دمشق كلية لتعليم الرسم. والآن بعد أن بلغتُ من العمر عُتياً، أنظر إلى الخلف فأرى طريقي من دمشق إلى برلين ثم إلى دمشق”.
بدأ النحت يثير اهتمام مروان، ففي عام 1955 نال الجائزة الأولى خلال المعرض الرسمي الرابع في دمشق واقتنى المتحف الوطني تمثاله “الجوع”، وهو من أوائل المنحوتات السورية التي لا تخضع للقواعد الكلاسيكية التي كانت سائدة في تلك الفترة، ثم انتقل إلى برلين في العام 1957 ليدرس في المعهد العالي للفن التشكيلي، ودخل مروان إلى مرسم هان ترييه Hann Trier، أحد مواهب الطليعة الألمانية الشابة.
برع مروان في الوجوه، حيث بقي المصوّر الدمشقي يغرف من ذخيرة لونيّة خاصة، ليبلور في كل مرحلة طريقة خاصة في تصوير الوجوه وصفها بدقة بقوله: “أصبح الوجه في أعمالي صورة للعالم، وليس لشخص واحد”، حيث برزت وجوهه العمودية بخلفياتها ذات الصلة بطفولته الشامية، ثم جاءت مرحلة الدمى والطبيعة الصامتة التي عكست تجريباً وترميزاً أكبر، وأخيراً أتت “مرحلة الرؤوس”، كما يسمّيها، مكرساً مزيداً من التضارب والحيرة والتأمل.
“بلدي يحتاج إلى فني أكثر من انتمائي لحزب سياسي”
كان التشكيلي السوري سياسياً من نوع خاص فلم ينفصل يوماً عن قضايا بلده كما حارب الأنظمة المستبدة بطرقٍ عدة، وهذا ربما ما دفعه للتقارب مع الكاتب عبد الرحمن منيف الذي عمل معه في عدة مشاريع كان أبرزها كتاب “أدب الصداقة” الذي صدر بالعام 2012 ليضم رسائل مروان قصاب باشي والكاتب عبد الرحمن منيف، حيث قال فيه منيف إنه “ينتمي إلى نوع نادر من الفنانين الذين يؤمنون بأن الفن ليس مجرد جمال سابح في الفراغ، بل هو فعل أخلاقي يربط المتعة والفرح بالحقيقة”.
الكتاب الذي ضم 30 رسالة بين الصديقين قدم التقاطعات بين “فنان يبحث عن طرق تعبير بالكلمات”، و”روائي مهووس بالفن يجرب في طاقة الكلمات على تعبير عن الخط واللون والكتلة” كما وصفه الدكتور فواز الطرابلسي مؤلف المقدمة.
قدم مروان قصاب باشي عدة أعمال تصور معاناة اللاجئين الفلسطينيين أيضاً، كما صور بلوحاته معاناة الناس ووجوههم التعبة، لكن نشاطه السياسي تراجع دون أن يختفي في أعماله لصالح فنه، وعبر عن ذلك بقوله: “أن تكون رساماً عربياً جيداً في أوروبا أمر نادر. المتمردون كثيرون لكن الفنانين قليلون. قررت في عام 1962 إيقاف كافة نشاطاتي السياسية وتكريس نفسي بشكل أساسي للفن. ولا يعني ذلك نسيان الأحداث الخطيرة التي كان يمر بها الشعب العربي، لكن بلدي كان يحتاج إلى فني أكثر من انتمائي إلى حزب سياسي”.
عمل قصاب باشي بين العامين 1977 و1979 أستاذاً في المعهد العالي للفنون الجميلة في برلين ، وفي العام 1980 كأستاذ كرسي في قسم التصوير بالمعهد العالي للفنون الجميلة في العاصمة الألمانية ايضاً كما درس الرسم في نفس المعهد منذ العام 1977 وأٌختير عضواً في المجمع الفني البرليني 1993.
عاد مروان إلى دمشق في زيارة في العام 2005 بعد خمسين عاماً على مغادرتها ليشارك في تظاهرة فنية كبيرة أقامتها المفوضية الأوروبية، لكنه بقي يقيم في برلين بشكل دائم.
له أعمال مقتناة من قبل وزارة الثقافة السورية والمتحف الوطني بدمشق، ومتحف دمّر(الدمشقي)، كذلك في المتحف الوطني ببرلين وقاعة المعارض في بريمن، ومجموعة الغرافيك كوبورغ، ومجموعة اللوحات لمنطقة بافاريا في ميونيخ، أيضاً في متحف هانوفر، ومتحف مدينة فرلفسبرغ، والمكتبة الوطنية بباريس، ومتحف Seita بباريس، وقاعة المعارض في مانهايم، المجموعة الفنية لجمهورية ألمانيا في بون، ومتحف معهد العالم العربي بباريس، ومتحف تاريخ الفن والثقافة في منطقة الهانزا في لوبيك.
بقي قصاب باشي يرسم حتى آخر أيام حياته، وودع الحياة بعيداً عن دمشق التي خسرت أكثر من علم في حركتها ا*لتشكيلية هذا العام.