نقلا عن البوابة
الكتابة عن مؤتمر مذاع على الهواء مباشرة بعد انتهاء فعالياته أشبه بوصولك الى المحطة بعد إقلاع قطارك، والحكى عن مناقشات دارت أمام الناس مباشرة أقرب الى ” الهرى” الذى أصبحنا نتعاطاه صباح مساء دون جدوى، والإقتراب من حدث ملأ الدنيا وشغل الناس لثلاثة أيام متواصلة حظى باهتمامهم ومراقبتهم عبر زاوية مختلفة يمكن أن يقلق البعض، لكن ماذا نفعل ومهمتنا مكمنها القلق وسرها الاختلاف.
هنا لن أمارس فن الكتابة عن المؤتمر الوطنى الأول للشباب، بقدر ما سأقوم بتفكيك الصورة وإعادة تركيبها من جديد، فمن المهم ألا نتلقى ما حدث على حاله وصياغته المباشرة، فبين السطور ما يمكن أن يقال، خاصة أننى جلست مراقبا لما يجرى أمامى، أرصد وأجمع المعلومات وأحلل العلاقات على الأرض، وهو أمر مهم فى حدث كانت المنافسة على استعراض الآراء والأفكار والرؤى فيه هى سيدة الموقف.
كان الإحساس المسيطر على الجميع فى قاعات المؤتمر أننا اكتشفنا أن فى مصر شباب، وأنهم عماد المستقبل، وأن دورنا هو أن نمكنهم من القيادة، وهو ما بدا فى تعليقات كثيرة، بعضها كان مربكا، وبعضها الآخر كان سخيفا.
نرشح لك : محمد الباز يكتب: لماذا يخدعنا عبد الفتاح السيسى؟ !!
فى جلسة الافتتاح التى عانت من بعض الهنات التى لا تليق بوجود رئيس الجمهورية مثل تعطل جهاز الكمبيوتر الذى تسبب فى عدم إذاعة القرآن الكريم فى بداية الحفل، وإلغاء إذاعة الفيلم التسجيلى الذى يشرح أعمال المؤتمر، شاهدنا فيديوهات قصيرة أخرى عادت لها الحياة بعد إصلاح الأعطال، وكان التعليق السخيف الذى أصر عليه مقدمو الحفل المذيعة إيمان الحصرى والمذيع رامى رضوان، أن هذه الفيديوهات جميعها من تنفيذ الشباب وحدهم، قالوا هذا وأعادوه أكثر من مرة، وكأنه معجزة فى حد ذاتها.
والأمر يحتاج الى مراجعة وتأمل، فكون الشباب هم الذين نفذوا هذه الفيديوهات فهو أمر لا معجزة فيه على الاطلاق، فزيارة قصيرة الى مدينة الانتاج الاعلامى يمكن أن نكتشف فيها أن من يقومون بإعداد وإخراج البرامج الكبرى ليسوا الا شبابا دون الثلاثين، وبينهم عباقرة فى تخصصاتهم، بما يعنى أن إنجاز بعض الفيديوهات على يد الشباب الذى شارك فى تنظيم المؤتمر لا يستحق كل هذه الإشادة والإعجاب، لكنه الإصرار على الرسالة التى حملها المؤتمر وهى إن لدينا شباب _ وكأننا لم نكن نعرف ذلك _ وأنهم قادرون على العمل والإنجاز والابتكار والإبداع دون أن يكتشف هذا أحد من قبل.
كان هناك إصرار آخر على تأكيد مسئولية الشباب وحدهم على تنظيم كل ما يتعلق بالمؤتمر، لم يتدخل أحد فى عملهم، ولم يفرض أحد وصايته عليهم، ورغم أن هذا المعنى لو كان حقيقيا فإنه نبيل بما يكفى، الا أنه يخاصم الواقع ويجافيه تماما، فقد كانت الى جوار الشباب بعض الخبرات التنظيمية من الكبار، وهو أمر طبيعى جدا ومطلوب، فليس مطلوبا من الشباب أن ينقطعوا عن الواقع، ومن الظلم البين لهم أن يبدأوا من جديد تماما فى كل شئ، فمصر لم تولد فى ٢٠١٣ يوم قامت ثورة ٣٠ يونيو، ولكنها دولة راسخة، لديها خبراتها وتجربتها، وما يجب أن يحدث على أرض الواقع هو أن تتواصل التجارب، فليس معقولا أن تزرع سيقانا فى الهواء، دون أن تربطها بجذورها.
ثم وهذا مهم جدا أيضاً، فليس معنى أن الشباب وحدهم من قاموا بالإشراف على كل شئ، أن نتهاون مع بعض الهنات التى لا تليق، فالإخراج النهائى لفعالية ضخمة مثل مؤتمر الشباب أمر مهم، خاصة أن من يجلسون له ولمن يقومون به على الواحدة كثيرون، وهم يتمنون لهم الغلط، حتى ولو كان صغيرا، وعليه كان لابد ان يكون عمل الشباب تحت إشراف من يمتلكون الخبرة والتجربة، لن ينقص هذا من جهدهم شيئا، ولن يمنح من أشرفوا من الكبار عليهم فضلا، لأن هذا هو دورهم الطبيعى.
لقد تعامل البعض مع مؤتمر شرم الشيخ على أنه مصالحة مع الشباب، رأس الدولة بنفسه يجلس مستمعا لهم، لا يقاطعهم، يحتفظ لنفسه فقط بحق التعليق المقتضب أحيانا، وأحيانا يضطر الى الإطالة، لم يصادر لهم رأيا ولم يرفض فكرة، بل كانت قراراته التسعة التى أعلنها فى حفل الختام بنهاية اليوم الثالث للمؤتمر صدى لما قالوه وقرروه وطالبوا به.
لكن كانت هناك مصالحة مهمة جدا لابد أن تجرى على الأرض، وهى مصالحة مع مصر قبل ٣٠ يونيو، وقبل أن تعترض، سأوضح لك ما أقصده، لا أتحدث عن مصر قبل ٣٠ يونيو واضعا بين سطورها مرحلة الاخوان التى استمرت عاما واحدا، فقد كانت الجماعة الإرهابية مجرد جملة اعتراضية ليس من الصواب الالتفات اليها، ولكنى أقصد مصر قبل ٢٥ يناير بكل عقودها وفتراتها التاريخية المتعاقبة، فنحن نملك تراثا وتجارب لا يمكن التنكر لها، ففيها من الإيجابيات ما يكفى لدفعها الى الامام، خاصة انه لدينا من الرغبة والقدرة ما يكفى لتجاوز زلات التجارب القديمة، لندخل عصرا نمتلكه جميعا، ولا يكون حكرا على أحد.
فى جلسات المؤتمر دار حوار مهم جدا عن تكوين حزب سياسى جديد، الرئيس عبد الفتاح السيسى من ناحيته وكما هو ظاهر من كلامه يرفض أن يكون له حزب يرأسه بنفسه، ليس لأن الدستور لا يقر له بذلك، ولكن لأنه يريد أن يكون حرفيا رئيسا لكل المصريين، ووجوده على رأس حزب بعينه سيجعله منحازا له وحده وضد الآخرين، وهذا ليس فى مشروعاته أبدا، لكن المناقشات الجادة فى هذا الإطار دفعته الى أن يوافق على حوار مجتمعى حول أهمية وجود تنظيم سياسى، ولا أعرف هل التقط أحد هذه الفكرة بشكل جيد، بما يجعلها قابلة للتنفيذ، أم أنها ستذهب أدراج الرياح ؟
على هامش هذه الفكرة دارت مناقشات بين عدد من الشباب الذى جاء ممثلا للقوى السياسية، وبعضهم لا ينتمى الى معسكر السيسى السياسى، بل كان أحدهم فى الحملة الرئاسية للمرشح الرئاسى السابق حمدين صباحى، وصلت المناقشة الى ضرورة أن يكون هناك حزبا سياسيا يقف الرئيس على قمته، ولما قيل أن الدستور يمنع ذلك،اتفق عدد من الشباب على أن الدستور ليس قضاءا وقدرا، ويمكن تغيير هذه المادة التى تحول بين الرئيس وبين تأسيس حزب سياسى، ورغم أن الفكرة راقت للبعض الا أن الاقتراب من الدستور لاقى معارضة شديدة، لأننا لو فتحنا هذا الباب، فليس بمقدورنا أن نسده، وستكون هذه سابقة، فكما غيرنا هذه المادة، يمكن أن نغير مواد أخرى لأهداف متباينة، وهو ما لا يتحمله أحد، فالعبث بالدستور ليس من مصلحتنا جميعا، فى وضع سياسى حائر ومرتبك.
ما كنت أتمناه أن تكون هناك جلسة مخصصة لتجارب التنظيمات السياسية السابقة، ولا مانع على الاطلاق أن تكون كل التجارب السابقة حاضرة فى النقاش، فالشباب الذين عملوا فيها وبها فى النهاية مصريون، وكانت لديهم آمال وطموحات، ثم انهم لم يكونوا مسيسيين، بل كانت لديهم رغبة جامحة فى العمل والصعود.
لا أطالب باستحضار الماضى من جديد، ولكن لا مانع من استحضار الجيد فيه، لأنه ملكنا وليس ملك أفراد، وهذا النظام فى النهاية ابن الأنظمة القديمة، هو متمرد عليها نعم، مصحح لأوضاعها نعم، لكنه فى النهائى لا يستطيع أن يتخلص من جيناتها، ثم انه ليس مطلوبا منه أن يخترع العجلة من جديد، ففى هذا مضيعة للوقت والجهد.
لقد أشار المفكر السياسى الكبير الدكتور مصطفى الفقى فى جلسة المشاركة السياسية التى حضرها الرئيس الى تجربته فى التنظيمات السياسية التى تعلم فى أروقتها فى عهد عبد الناصر، صحيح انه لم يشرح الأمر بما يكفى، لكن إشارته كانت دالة، فإذا أراد النظام الجديد أن يمنح الشباب وعاءا سياسيا يتحرك من خلاله، فلا أقل من ان ينظر ولو قليلا الى الوراء، ليرى ما الذى فعله سابقوه، وهو لم يكن جميعه شر.
لقد تبلورت لدى فكرة خلال جلسات المؤتمر جميعها، أعتقد أنها تستحق النقاش، وهى فكرة يمكن ان أطلق عليها ” ديكتاتورية المستقبل” وهى فكرة نشأت فى مواجهة ما يمكننى تسميته ب ” استبداد الماضى”، يرغب الشباب أن يقطعوا كل صلة لهم بالماضى، يتعالون عليه، وقد رصدت ذلك من خلال حالة التصفيق الهائلة التى يصدرها الشباب بعد كل إدانة للماضى وممارساته، وكأنهم يباركون هدمه بالكامل وإهالة التراب عليه كلية.
ربما بدون قصد يغذى الرئيس عبد الفتاح السيسى والقائمين على المؤتمر والمتابعين لخطط اعداد الشباب هذه الفكرة بشكل كامل، فهم وفى سياق احتفاءهم بالمستقبل، ينفون الماضى تماما، وهو ما يروق للشباب الذين يريدون الفكاك من كل وأى قيد، وكأنهم يستطيعون صياغة مستقبلهم كاملا لأنهم فقط يريدون ذلك.
لقد عانينا كثيراً من استبداد الماضى، ظللنا لسنوات طويلة نستسلم لمن يحكموننا من القبور، بعضنا يترك الساحة ليطل علينا عبد الناصر مرة، وبعضنا يفرح بأن يصيغ حسن البنا حلمه ومستقبله، وهو ما رفضناه ولا زلنا نرفضه، لكن فى مقابل ذلك فإننى أرفض تماما ديكتاتورية المستقبل، لا يمكن أن نستسلم لأصحاب التجارب المنقوصة أن يصيغوا ما هو قادم، خاصة أننا نعرف ما تعرضت له الأجيال الجديدة من تجريف صحى وتعليمى كامل، وإذا كان هناك من يتحدث عن برامج اعداد وتأهيل، وإذا كان الرئيس نفسه قرر فى كلمته الختامية، أن تقوم رئاسة الجمهورية بالتنسيق مع مجلس الوزراء والرموز الشبابية بعمل تصور سياسى لتدشين مركز وطنى لتأهيل الكوادر الشبابية سياسيا واجتماعيا وأمنيا واقتصاديا، فإن التأهيل لن يكون كافيا مع أجيال لديها عطب فى تكوينها، وهو ما يقودنا الى الالتفات لأجيال لا تزال تتعلم فى مدارسنا علنا ندركها مبكرا، هذه الأجيال اذا تعلمت جيدا، سيكون التأهيل فارقا معها جدا.
هل تريدون قولا صريحا الى أبعد مدى؟
سأقول لكم…. لقد تحدثت كثيراً مع شباب من مختلف الأطياف حضروا المؤتمر، ونقل الى بعضهم مناقشات جرئية وصريحة وحادة وجارحة فى بعض الأحيان، وأستطيع أن أثبت هنا فكرة قد تكون صادمة لكثيرين ومنهم الرئيس نفسه.
لقد جاء الشباب إلى شرم الشيخ من كل مكان فى مصر ليبحثوا عن مصلحتهم الخاصة، كان المعيار لديهم هو ما الذي سيحصلون عليه، بصرف النظر عما يمكن أن يقدموه للوطن، فكرة الوطن والانتماء له والعمل من أجله حتى دون مقابل ليست واضحة فى أذهانهم، لقد رأيت مشروعات فردية، كل شاب يتحدث عن نفسه فقط، قرروا أن يعطوا بقدر ما يأخذوا، بل ربما بأكثر مما يعطون، ولا استعداد لديهم أن يعطوا دون أن يعرفوا ما هو المقابل أولا.
لا أمتلك رؤية تشاؤمية بالطبع، ولكننى أرصد واقعا، ولذلك فمن المهم بناء الشباب نفسيا ووطنيا قبل تأهيلهم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا.
هل تريدون صراحة بأكثر من هذا؟
سأقول لكم مرة أخرى… المطلوب الآن أن يتم اعداد الشباب نفسيا بأن مصلحتهم مع الوطن وليس مع النظام السياسى، أعرف أن هذه الفكرة واضحة تماما فى عقل الرئيس عبد الفتاح السيسى، لكنها لابد أن تكون واضحة فى عقول من حوله، هؤلاء الذين يبذلون مجهودا جبارا فى تجميع الشباب وإعدادهم،
الفكرة واضحة لكنها فى حاجة الى تدليل عملى.
فى ٢٥ يناير نزل الشباب مطالبين برحيل مبارك، كان الحزب الوطنى يمتلك كشوفا تقول أن لديهم ٣ ملايين عضو، سأل مبارك زكريا عزمى عنهم بالمناسبة، عندما أراد أن يستمع فى الشارع لمن يؤيده ويهتف باسمه، لكن لم يقدم له أحد إجابة منطقية عن اختفاء هذه الملايين.
كانت الإجابة التى لم يصرح بها أحد أن أعضاء الحزب الوطنى بمختلف فئاتهم كانوا عبارة عن تجمع مصالح كبير وعندما تبددت المصالح تبددوا هم أيضاً، لم تكن هناك فكرة تجمعهم أو توحدهم أو تجعلهم يدافعون عنها.
هذا تحديدا ما أحذر منه، اجمعوا الشباب كما تريدون، نظموا لهم مؤتمرات كما ترغبون، أسسوا مراكز بحثية وسياسية كما تشاءون، استمعوا منهم كما تحبون، لكن اجعلوهم يجتمعون على فكرة للوطن، أن تكون المنفعة المباشرة لهذا البلد وليست لأنفسهم فى الأساس، لأن هذه الجموع الغفيرة التى تبحث عن مصلحتها فى المقام الأول سوف تنفض تماما عنكم عندما لا يجدون لديكم ما يريدون.
لا تنفخوا فى الشباب، اجعلوهم فى حجمهم، اطلبوا منهم ما يستطيعونه فقط، لكن أن تهدموا الماضى لصالحهم، وتضعوهم على طريق الديكتاتورية لما يرونه فى أنفسهم، فهذا هدم للمستقبل وتجاهل للماضى، والماضى ليس كله قبور مفتوحة، لكن فيه ما يصلح للبناء عليه.
غدا : المعارضة المهذبة فى حضرة الرئيس