نقلًا عن المصري اليوم
ناشد الدكتور حسين أمين أستاذ الإعلام بالجامعة الأمريكية خلال مؤتمر شرم الشيخ، الرئيس السيسى بدعم الإعلام الوطنى، يقصد الدكتور قطعاً بـ«الوطنى» الإعلام الممول من الموازنة العامة للدولة. بات صعباً نظرياً أن تقول الإعلام المملوك للدولة، على الأقل فيما يخص المؤسسات الصحفية القومية. أيضاً من المبكر جداً أن تسميه إعلام الشعب، أو إعلام الخدمة العامة لأن الأمر مازال يحتاج إلى ضبط فى الممارسة وإعادة تأسيس العقيدة الإعلامية لهذه الوسائل بحيث تكون كما هو المفترض إعلاماً للجمهور كل الجمهور وليس من يجلس فى سدة السلطة فحسب.
إذن هو «إعلام الخزانة العامة»، ربما كان ذلك أكثر دقة من واقع التمويل، الإعلام الخاص يموله مؤسسوه والمساهمون فيه بأموالهم الخاصة، وما بقى من إعلام أو صحافة حزبية تمولها الأحزاب من موازاناتها، وهذا إعلام تموله الخزانة العامة، وتمده بالسبب الأهم وربما الوحيد حالياً لبقائه.
الأرجح أنك تعرف أن الإعلام فى مصر عموماً يعانى أزمة معقدة بسبب انكماش السوق وتراجع الاستثمار فى الصناعة بعد فترة نمو كبرى بدأت من 2005 وحتى 2013، وتراجع كذلك فى سوق الإعلانات بفعل الركود الاقتصادى العام، غير حالة عدم الانضباط فى السوق الإعلانية بفعل تركز قرارها فى يد بضعة أشخاص معدودين. أيضاً لا يجب أن تنكر أن انحسار «المال السياسى» كان أحد أسباب هذه الأزمة، وسائل كثيرة تأسست بأهداف سياسية من الأصل، فلما انقضى الغرض السياسى بدأت تعانى من شح التمويل وتراجعه.
تلك أزمة اقتصادية، ناهيك عن أزمة فى الممارسة وصناعة المحتوى، أثرت على مصداقية الإعلام المصرى كله، ودمغته بمواقع حادة فى استقطابات سياسية، وأثرت على مستخدميه، ما أدى فى أهم تجلياته إلى تراجع توزيع الصحف الورقية بشكل مبالغ فيه حتى مع كل التوقعات التى تتحدث عن نهاية الورق، لكن النهاية فى مصر بدت كالقدر الذى نستسلم له دون محاولات فى تطوير محتوى قادر على المنافسة أو المد فى عمر هذه الصناعة، بتمايز يجعلها مكملاً مهماً لما يتعرض له المستخدم عبر الشاشات الفضائية والإلكترونية.
أمام هذه الأزمات ماذا تفعل المؤسسات؟
الأرجح أنها تنشغل بالإصلاح، بالبحث عن وسائل للمواجهة طالما اتخذت قراراً بالمقاومة من أجل البقاء والاستمرار فى النمو، المؤسسات الخاصة وبطبيعة الحال أكثر اشتباكاً مع ذلك. فى النهاية تلك استثمارات أشخاص، يهمهم إدارتها بأفضل الوسائل رشداً، خاصة إذا كانت الوسيلة الإعلامية تأسست من البدء على نموذج اقتصادى، يجعلها تعتمد الاعتماد الرئيسى على إيراداتها، سواء فى النمو أو تغطية أساسيات الإنفاق.
مثلاً صحيفة «المصرى اليوم» تجتهد فى الحفاظ على أوضاعها. سواء عبر خفض النفقات دون تأثير على الحاجات الأساسية لإنتاج المحتوى والخدمات التى تقدمها للعاملين والقراء، أو بإعادة الهيكلة الشاملة للسيطرة على التمدد والتضخم فى أعداد العاملين، أو بمحاولة ضبط حصة الجريدة من الإعلان، استثماراً لقيمة الجريدة غير المختلف عليها فى هذه السوق ومكانتها المتقدمة. كذلك البحث عن مصادر للعوائد من موقعها الإلكترونى وتطبيقاته المختلفة، والمعاملات التجارية. ليس أمامها حل غير ذلك، إن عجزت عن تمويل نفسها ستستدين، حتى لو استدانت من مساهميها، لكن عبء الدين سيخلق هوة واسعة بين الإيرادات والمصروفات، بالشكل الذى يجعل بقاءها محل شك مستقبلاً، ووجودها المرحلى شكلياً، وقدرتها على أداء واجباتها الأساسية تجاه العاملين فيها منعدمة.
وسائل أخرى بحثت عن شركاء لتمويل الخسائر وضخ استثمار جديد، بعضها سلم الراية تماماً لمستحوذين جدد فى السوق، وجميع الإجراءات سواء كانت تتعلق بمستحوذين أو شركاء، تمر أيضاً عبر خطط إعادة هيكلة صعبة كذلك.
كل تلك هى الحلول الطبيعية والمنطقية.. لكن «إعلام الخزانة العامة» وضعه مختلف، المؤسسات الصحفية القومية حصلت على ما يزيد على مليار و155 مليون جنيه كدعم مالى مباشر من الموازنة العامة فى العامين الأخيرين، والرقم من طلب إحاطة قدمه النائب مصطفى بكرى، منتصف أغسطس الماضى.
وحسب الجهاز المركزى للمحاسبات ارتفع إجمالى الخسائر العامة لماسبيرو 4.14 مليار جنيه مقابل 3.6 مليار العام الماضى، وبلغت جملة الأجور المُقدرة 2.1 مليار جنيه من إجمالى مصروفات 5.9 مليار جنيه، فيما بلغت موازنة اتحاد الإذاعة والتليفزيون نحو 11.55 مليار جنيه. بينما أظهر تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات للسنة المالية ٢٠١٣ /٢٠١٤، أن إجمالى خسائر ماسبيرو حتى يونيو ٢٠١٥، بلغ ما يزيد على ٣٢ مليار جنيه.
لديك فى الاتحاد نحو 40 ألف موظف أو يزيد يخدمون نحو 40 قناة تليفزيونية وخدمة إعلامية، حتى إن النائب المجتهد جداً محمد بدراوى اكتشف أن عدد المسجلين كمقدمى برامج ومذيعين يقدر بـ2643 شخصاً.
ما تأثير كل ذلك؟ البعض يعتقد أن هذه الأموال تصب فى صالح الأمن القومى، وهو منطق وجيه لو كان لهذه المنظومة الضخمة تأثير حقيقى فى المناخ الإعلامى. قناة «خاصة» واحدة مثل القاهرة والناس مثلاً، تملك تأثيراً وحضوراً يزيد على كل ذلك بمجموع مذيعين أساسيين لا يزيدون عن 10 أو 15 شخصاً وبرامج جيدة وقليلة التكلفة فى الوقت نفسه، وكذلك الكثير من القنوات الخاصة.
حسناً.. كيف يمكن للرئيس أن يدعم الإعلام الوطنى أو إعلام «الخزانة العامة»؟ هل باستمرار ربطه بالخزانة العامة؟ أم بالتعامل معه بجرأة عبر خطط هيكلة تضمن له البقاء والتأثير وتحقيق المفترض منها دون هذه التكلفة الضخمة التى تكفى لإحداث نقلة هائلة فى التعليم مثلاً.
لديك حلول فيما يخص الديون المتراكمة، كيف يمكن تقليل أثرها الذى يكبل أى نمو لهذه المؤسسات؟ لكن أيضاً لدينا دراسة مهمة للمهندس أسامة الشيخ الرئيس الأسبق لاتحاد الإذاعة والتليفزيون، وأخرى للدكتور سامى عبدالعزيز العميد الأسبق لكلية الإعلام، والاثنتان تركزان على تطوير القطاعات فى إطار بعد اقتصادى وتحويلها لقطاعات رابحة، مع أفكار لتحقيق عوائد، وجدولة للديون.
فى ماسبيرو مثلاً مجموعة قنوات أسسها أسامة الشيخ تحت اسم شبكة تليفزيون النيل، تضم قنوات متنوعة ومختلفة، فيما ترى مجموعات وشركات برأس مال شبه «دولتى» تؤسس مجموعة قنوات جديدة متنوعة، لماذا لم تمد هذه المجموعات يدها لماسبيرو مثلاً، ما المانع لو كانت حدثت شراكة على قنوات النيل مثلاً بين الجانبين، وتولت المجموعات الإعلامية الجديدة تطوير هذه القنوات، كذلك تسعى ذات المجموعات للاستحواذ على صحف فيما يوجد عند الدولة صحف خاسرة تماماً ولولا دعم الخزانة العامة ما بقيت على قيد الحياة، فلماذا لا تمد يدها لتلك الصحف سواء بالمشاركة أو الاستحواذ، وإذا كانت هناك مخاوف قديمة من خصخصة قطاع الإعلام، فأى مخاوف من دخول رأس مال مأمون ومضمون ولاؤه للدولة فى تطوير هذا القطاع، طالما أن هذه الأموال فى جميع الأحوال سيجرى إنفاقها على تأسيس وسائل جديدة؟
البقاء فى الإعلام مرهون بالقدرة الذاتية على الاستمرار، ودعم إعلام «الخزانة العامة» لا يكون إلا بـ«فطمه» عن الخزانة العامة، حفاظاً عليه وعلى الخزانة العامة فى الوقت ذاته، وتحقيقاً لعدالة مفقودة فى السوق، وإذا كانت هناك نية للتقشف ومراجعة للإنفاق والدعم وخلافه، فهذا ملف يحتاج للمراجعة، ليس الهدف منه إغلاق الإعلام «الوطنى» أو تشريد العاملين فيه، بقدر ما هو مساعدته على البقاء منفرداً، ومساعدة الخزانة العامة على توفير المليارات التى كانت تذهب لدعمه.