في دردشة مع صديق أخبرته أنني أود للمقال الأول لي بمجلة ” الفيلم” أن يكون مقالا تأسيسيا لما أحلم به وأريد، أن يجمع بين “السينما” التي أعشقها، و”التنوير” الذي أشعر أنه مشروعي الأساسي، فسألني: وهل ثمة علاقة بينهما؟
لم أستطع الرد وقتها؛ ربما لأن ما تؤمن به وتحلم، يبقى في الخلف، في اللاوعي، لا تستطيع التعبير عنه في جلسة “على الطاير”، خاصة أن العقل العربي كله يعيش في حالة نادرة من عدم الاستقرار المعرفي، يعيش في “اللامعقول” الذي دعم جذوره، مستريحا جدا، في الذهن العربي منذ قرون(تحديدا منذ القرن الثالث عشر الميلادي)، فأصبح “اللامعقول” كالشجرة المغروسة بجذور حديدية، وعبر أوتاد صلبة في كل خلايا الوعي العربي.
والتنوير يحارب في جزء كبير منه هذا ” اللامعقول” – لا أقصد بالطبع هنا تيار العبث أو مسرح اللامعقول- باعتباره، أي التنوير، سلطانا للعقل.
ويحتاج التنوير إلى وسيلة ساحرة ليصبح “لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه”. والسينما، بكل وضوح، هي تلك الوسيلة، وليس من وسيلة سواها، فالسينما، فضلا عن الاستمتاع والشغف، هي الكفاح الإنساني لخلق عالم أفضل للشعوب.
لكن هل السينما تسير في مسار التنوير؟
للأسف تاريخ السينما في العالم، وفي مصر، لم يرتبط دائما بمهمات التنوير الفكري، ولا بالإصلاح الديني. أفلام نادرة هنا وهناك.
وفي عددنا هذا أفردنا الملف الرئيسي لـ “الثورة والسينما”، ولعل التنوير هنا هو أساس الثورة.. لماذا؟
لأن التنوير ليس الثورة على السلطة الدينية فقط، كما يحصره البعض، وإنما هو ثورة حقيقية على السلطة السياسية أيضا، بل أرى أن الثورة تكتمل وتدور وتنشد ” التنوير”، غير المتحقق في الفلسفة ولا في السينما، على الأقل في السينما المصرية، التي نستهدف من مجلتنا ” الفيلم” أن تكون وسيلة مبدعة للتعلم والنقاش والوعي ونقل المعرفة، أن تصبح كالماء والهواء بالنسبة للمصريين المطحونين دوما بين سلطة دينية وأخرى سياسية.
مرة أخرى هل ثمة علاقة بين التنوير والسينما؟
آه هناك علاقة قوية وتاريخية أيضا، فمن الظواهر اللافتة للانتباه في القرن السادس عشر، ثم قفزا إلى القرن العشرين، ظاهرتين: الأولى وهي “دوران الأرض”، والأخرى “عصر الصورة”.
الظاهرة الأولى تخص التنوير، وكان الفضل فيه لـ”العلمانية” على يد عالم الفلك الشهير ” كوبرنيكوس” عندما أعلن أن الأرض تدور حول الشمس فى كتابه ” حركة الأفلاك”، أي أن دوران الأرض يعني أن الإناسان ليس مركزا للكون، وبالتالي ليس هناك حقيقة مطلقة؛ لأن مع حركة كوكب الأرض الإنسان يتحرك في حركة، والحركة تنطوي على تغير، وهذا التغير يعني النسبية، والنسبية تمنع العقل من اعتقاده بامتلاك حقيقة مطلقة. وهنا بالطبع أرتعبت السلطة الدينية، ومن ورائها السلطة السياسية، التي كثيرا ما تختلط وتمتزج بها، من هذا الكلام الذي يؤسس للعلمانية، ومن ثم للتنوير الذي يقرر أنه لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه، فتمتنع أي سلطة على العقل سواء دينية أو سياسية. وتلك الظاهرة، باختصار، قلبت موازين القوة، ونقلتها من خارج إرادة الإنسان- الله ورجال الدين والحكام- إلى إرادة الإنسان وعقله بشكل واضح وصريح.
والظاهرة الثانية تخص قوة الصورة، وطغيان التصور “سينما بشكل ما”. قوة الصورة في حركة الأفلاك، وطغيان التصور في دوران الأرض حول الشمس، مما يخلق مشهدا سينمائيا، وصولا إلى عصر “ثقافة الصورة” فائق السرعة في القرن الواحد والعشرين، فالسينما بما تمتلكه من إمكانات سمعية بصرية، مسموعة مرئية، وقدرة على الانتشار والوصول، وتجاوز حواجز اللغة، واستلهام الآداب ونقل تجارب الشعوب بدت الأقدر على ممارسة حاسمة، في هذا الزمان .. زمن ” ثقافة الصورة”.
والمفارقة أنه رغم عصر الصورة وطغيانه إلا أن الحقيقة الواقعة غير مؤكدة. رغم عصر الصورة الهائل، والتكنولوجيا الحديثة في توثيق الأحداث، صوتا وصورة، إلا أننا مثلا شهدنا حالة من التضارب وإخفاء الحقيقة في أحداث ثورة 25 يناير العظيمة وما تلاها. لم نستطع حتى الآن التأكيد المطلق بتفاصيل حادثة مثل موقعة الجمل، أو حادث ماسبيرو، القريب من أدوات التوثيق من معدات وكاميرات( مبنى التليفزيون الرسمي).. وهذه حالة مصرية فريدة، تقتل عصر الصورة، وتقمع التنوير وسلطة العقل.
مرة أخرى نعود إلى التنوير والسينما التي عانت تجربتها في مصر من هيمنة السينما التجارية على إنتاجاتها، فيما بقيت السينما الجادة (ذات الدور التنويري) تكافح لإيجاد موطئ قدم في سوق السينما المصرية، الذي بدا من جهته طاردا لهذه النماذج من السينما الجادة، أو السينما المستقلة، تماما كما بقيت هذه السينما عاجزة جدا، على المنافسة عبر شباك التذاكر أو حتى باقبال الجمهور بعيدا عن ذلك الشباك. وهذا لعيب فيها هي، ولعدم قدرتها على صياغة أفكارها بشكل واضح وصريح عما تريد وكيف، متصورة أن لفظ المستقلة يعني “الاستقلال” حتى عن هموم البشر والمجتمع. فأصبحت تتناول “اللاشيء”، وتقدم تجارب ذاتية ربما تصلح لكل زمان ومكان، وليس- للأسف- تجارب تخص هموم المجتمع المصري وقضاياه.
فصار أمام هذا النوع من السينما المستقلة أن تكتفي بالاعتبار والتقدير في المهرجانات والعروض الثقافية، الأمر الذي يعني الاتجاه نحو الضمور مثل البخار الذي يظهر قليلا ثم يضمحل.
وحديثي عن التنوير والسينما، لا يعني أن تصبح السينما في وجه آخر “دوجما للتنوير”، فتفقد جمالياتها الفنية. ليس من المهم أن تمتلئ الشاشة بـ”القاذورات”، أم بـ”الورود”. ما يهم هنا ماذا تعرض هذه السينما، وكيف تعرض؟ كيف نميز بين السينما الجادة ” التنويرية”، التي يقال عنها ” المستقلة”، وبين السينما التجارية. الفكرة تدور حول العلاقة العضوية بين الإبداع والمستقبل، فالإبداع تجسيدا للمستقبل، وليس امتدادا للماضى. وفي هذا المستقبل يكمن التنوير، ويكمن التغيير، وتنتعش الثورة، وتظهر تجارب الشعوب. ولذلك نخصص العدد المقبل من مجلة ” الفيلم” عن السينما الايرانية، وكيف تكون تجربتها ملهمة لصناع السينما في مصر.
ورغم اللوم لصناع السينما إلا أن السينما في العالم لعبت دورا بعبورها للمنعطفات الحادة التي مرت بها خلال القرن العشرين، خاصة ما قبل الحربين العالميتين، وبينهما، وبعدهما، وما تلاها من الحرب الباردة، وصعود حركات التحرر والاستقلال الوطني، وثورات الشعوب، ومثلت صدى إبداعيا مهما متمثلا في الذاكرة البصرية لتلك الحركات التحررية والثورات التي نتعرف عليها تفصيلا بملف هذا العدد من مجلة الفيلم، عبر موضوعات شديدة العذوبة من الزملاء الكتّاب الذي أشرف بالتعاون معهم، وعلى رأسهم الزميل العزيز السينمائي المتميز حسن شعراوي، والكتّاب الكبار مستشارى التحرير: د. وليد الخشاب، صلاح هاشم، عرب لطفي، وصفاء الليثي. وكذلك الكاتبة عزة خليل، والعزيزة عزة إبراهيم، والأستاذة بسنت الخطيب، فضلا عن الزملاء الكتّاب المتميزين: وفاء السعيد، عماد منصور، رشا حسني، مصطفى ماهر، إسلام أنور، ومنار كامل. والشكر موصول بالطبع إلى الكاتب فتحي إمبابي رئيس تحرير مجلة ” الفيلم” منذ عددها الأول.
تأسيس حلم
أتمنى وأحلم بأن تؤسس جمعية النهضة العلمية و الثقافية ( جزويت القاهرة) ومن على الدرب نفسه لمشروعات صحفية أخرى في الموسيقى والرقص والفلسفة والفن التشكيلي والمسرح و تشكيل الوعي النقدي والكتابة الحلوة. في مثل هذه المشروعات تكمن نهضة المصريين والإنسانية، وعبرها تكمن سلطة العقل و الوجدان في نزع الخوف الإنساني من أي سلطة دينية أو سياسية. ومن خلال تلك المشروعات نعيد مرة أخرى ضبط بوصلة السينما المستقلة إلى الفكرة، إلى الوعي، إلى الاهتمام بالبشر وتجاربهم، بدلا من الاهتمام الواهم بالمعدات وخطوط الانتاج، فالإنسان أهم من الكاميرا.