نقلاً عن المصري اليوم
طارق الشناوي
أول مرة تردد فيها اسم هذا الفيلم لم يكن الخبر مقترنا بافتتاح «قرطاج» فى دورته الاستثناثية «الخمسينية»، ولكن باعتباره أول فيلم روائى يتناول جهاد النكاح وتم تسويق الخبر باسم بطلته هند صبرى.
هو فى الحقيقة خبر عار تماما عن الصحة، لأن ما شاهدناه هو اغتصاب، جهاد النكاح قائم على أن المرأة توافق على إقامة علاقة جنسية كنوع من الجهاد فى سبيل الله، فهى تمنح نفسها لمقاتل يرفع شعار الإسلام عن طيب خاطر، أملا فى دخول الجنة، وهو كما ترى نوع من البلاهة العقلية التى يتم مع الأسف ترويجها باسم الدين، وبعض المثقفات وقعن فيها.
كلنا فى الهم شرق، الحقيقة هى أن الغرب أيضا يكتوى بنيران العنف والتطرف والإرهاب الذى يتدثر عنوة بالدين الإسلامى، القضية تحرك كل التناقضات، التى نعيشها ولا أقول نتعايش معها لأنها صارت نمط حياة.
«زهرة حلب» يستحق، كقضية، بالفعل أن يحظى بشرف افتتاح تلك الدورة، ولكنه كشريط سينمائى يعوزه الكثير، فهو لا يملك روح المغامرة على مستوى اللغة السينمائية، وربما وقع اختيار مدير المهرجان إبراهيم لطيف على الفيلم، لأهمية القضية التى يتناولها بالطبع، والعالم بالفعل مشغول سينمائيا بتلك القضية مثلما تشغله أيضا قضية الهجرة غير الشرعية.
فى مهرجان «برلين» شهر فبراير الماضى شاهدت فى قسم «البانوراما» فيلما للمخرج الجزائرى الشهير رشيد بوشارب، الفيلم البلجيكى الجنسية، «الطريق إلى إسطنبول» اختار نقطة مغايرة للسائد، وهو أن تتم الغواية تحت شعار الدين من خلال أسرة أساسا لا تدين بالإسلام ولا توجد لديها أى مرجعية ثقافية عربية تدفع أفرادها لهذا الطريق، ولكن الابنة 18 عاما هى التى تقع تحت تلك المقصلة من خلال صديقها المسلم الذى يقنعها بالهجرة والسفر إلى سوريا عن طريق إسطنبول، للانضمام إلى صفوف المجاهدين، وهو الخط الذى لا يزال ساريا، حتى الآن، رحلة الالتحاق بالإرهابيين فى حلب، حيث الصراع فى سوريا يبدأ أولا من تركيا، القيمة الفكرية التى تبناها الفيلم تحمل فى عمقها أن الشباب أياً ما كانت جنسيته وخلفيته الثقافية من الممكن أن يفقد سيطرته على المنطق ويقع تحت ضغط يتم بعده غسيل المخ فيفقد حتى هويته، وهو ما حدث فى الفيلم البلجيكى حيث شاهدنا أماً تبحث عن ابنتها، أما فى الفيلم التونسى فلقد تابعنا الأم التى أدت دورها هند صبرى وهى تسعى لإنقاذ ابنها من الانضمام لصفوف الإرهابيين.
الاقتراب من القضية السورية بخلفية سياسية كما نشاهد ذلك مثلا فى الأفلام التى تقدمها مؤسسة السينما السورية التى تنحاز للسلطة، وتضع فى النهاية الأمل فى يد بشار والجيش السورى، بينما الأفلام التى يقدمها القطاع الخاص السورى تقف على الجانب الآخر، وتفضح ممارسات هذه السلطة وتحملها مباشرة مسؤولية قتل الأبرياء، لأن الثورة بدأت سلمية، وبسبب عنف السلطة ومواجهة القمع صارت دموية. كل ما تحت الجلد خرج للعيان بعد أن دخلت السلطة فى الصراع، فصار الكل نراه وهو ممسك بمدفع يذود به عن نفسه.. تلك هى حقيقة المأساة التى نعيشها فى سوريا.
الاقتراب من تلك القضية بكل تفاصيلها محفوف بالمخاطر حتى لو توفرت حسن النوايا، ولكن يبقى أن فيلم «زهرة حلب» الذى شارك أيضا المخرج التونسى رضا الباهى فى كتابته لم تكن قضيته أنت مع أو ضد بشار، ولكن أنت ضد الإرهاب والعنف والدماء، وهو الموقف الذى يتبناه الجميع، لا أحد من الممكن أن يقف على الجانب الآخر، وهكذا شاهدنا الشاب الوديع الهادئ الذى يعشق الحياة والموسيقى مع صديقته فى بداية أحداث الفيلم، وفجأة يظهر من ينهره لأن الشيطان ثالثهما، رغم أن ثالثهما تحديدا كان الجيتار، يبدأ الشاب فى قراءة القرآن، وبعد أيام نرى يده وهى تمتد على أوتار الجيتار لتمزقها ثم يطلب من أمه أن ترتدى النقاب بحجة أن هذا هو الإسلام.
الأم مع اللقطات الأولى نتابعها وهى تعمل مسعفة، تنتقل من موقع إلى آخر بجدية وفهم وإخلاص، وهو ما يمنح شخصية هند صبرى ظلالاً إيجابية ونكتشف أنها اجتماعيا منفصلة عن زوجها هشام رستم وهو واحد من أشهر فنانى تونس، حيث إنه لم تكتمل حياتهما معا، لا تستطيع أن تضع يدك بالضبط على الجذور الخلافية التى أدت للطلاق، ولكن الأهم هو سؤال لم يجب عنه الفيلم: لماذا تونس تحديدا صار المجتمع بعدد أفراده القليل نسبيا وثقافته أكثر مرونة؟ حيث حرص الحبيب بورقيبة، أول رئيس تونسى، على أن يضع دائما مسافة بين الدين والدولة، تونس دولة مدنية بقانون مدنى، حتى فيما يخص الأحوال الشخصية، والتيار الإسلامى عندما وصل بعد ثورة الياسمين لسدة الحكم لم يستطع الاقتراب من تفاصيل هذا المجتمع، ورغم ذلك فإننا أول ما سمعنا عن جهاد النكاح كانت المحطة الأولى هى تونس.
الدراما تمضى سريعا حتى نصل إلى سفر مراد ابن هند صبرى إلى حلب وانضمامه للإرهاب الذى يدعى تحرير الوطن وقناعته الشخصية بأنه يناصر الحق ولا تعلم أمه السر وراء اختفائه إلا بعد أن تتلقى اتصالا هاتفيا منه، فتقرر أن تخدعهم وبنفس الحيلة فقدمت نفسها لجماعة الإرهاب والتطرف التى تعمل فى تونس، على اعتبار أنها تريد الجهاد وتذهب إليهم مؤكدة أنها تحلم برفع راية الإسلام عالية خفاقة، ومن إسطنبول إلى حلب ويتم اغتصابها وتقتل من اعتدى عليها وتنتقل إلى الجبهة ويقتلها ابنها وهو لا يدرى، لأنها ترتدى النقاب فى نهاية ميلودرامية، وكأن الفيلم يذكرنا بأنه طلب من أمه أن تنتقب.
هند صبرى تؤدى الدور بحالة من النشوة، هند تعايش شخصية الأم بتفهم وألق ودرجة غير مسبوقة من الحميمية، ولكن يظل المأزق فى الشريط السينمائى، حيث غاب سحر السينما كلغة وقبلها الدراما أيضا لم تتعمق فى البحث عن هذا البلد المؤمن بالحرية وبحق الإنسان فى الاختيار، كيف تسلل إليه التطرف؟ وهل كانت ثورة الياسمين هى التى دفعت البعض لهذا الاتجاه؟ مثلما يحاول بعض كارهى الثورة الادعاء والتى انطلقت شرارتها الأولى من تونس ومن بعدها عاش العالم العربى فى ثورات أجهضوا أحلامها والآن يريدون التشكيك فى معناها وجدواها.
الحدث الصاخب فى الدراما عادة يؤدى إلى صخب فى الرؤية الإخراجية، ولولا احترافية هند صبرى لدفعتها الميلودرامية التى تغلف روح الفيلم إلى زيادة مفتاح التعبير، ولكنها حرصت على أن تحتفظ بقدرتها على الإيحاء.
لا شك أن رضا الباهى واحد من الأسماء التونسية فى الفن السينمائى التى ارتبطت بالسينما المغامرة والمبشرة مثل «شمس الضباع» و«صندوق عجب» وهما من أهم أفلامه، ولكن يبقى أن آخر فيلمين له «براندوا يقابل براندور» و«زهرة حلب» لم يكونا على مستوى الترقب.
لا تملك إلا أن تتوافق مع الفيلم فكرياً، فهى قضيتنا كلنا سواء حمل التطرف اسم داعش أو النصرة أو القاعدة أو بوكو حرام، ولكن من قال إن السينما هى صراخ فكرى! إنها قبل وبعد لغة سينمائية وتعبير بالموسيقى والإضاءة والتكوين وهو ما افتقدته فى «زهرة حلب».