“يسألونك عن “الغلابة” بما استفادوا من المسلسلات؟ فقل لهم تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم”
تساؤل طالما استهجن به كثيرون مستخفين بأمر الفن ومنتقصين من فائدته وجدواه المادية على حياة البسطاء، أو بعبارة أبسط: “المسلسلات فادت الغلابة بأيه؟”، معتبرين أن الملايين تذهب لأصحاب الملايين، ويخرج الفقراء من بينهم سالمين غير غانمين!
الغريب أن تلك الأفكار يتداولها أيضا البعض ممكن سنحت لهم الفرصة للحصول على مؤهل جامعي ومضوا لسنوات في سوق العمل، وبالرغم من ذلك غابت عنهم الحقيقة، فوقعوا فيما وقع فيه أنصاف المتعلمين والأميين!
ونحن إذ نفند الأمور هنا لا نقترب من زاوية الفن كفن ولا نضيع الوقت فيما هو جيد وصاحب رسالة حقيقية، وما هو رديء ومبتذل، وإنما نضع المسلسلات في ميزان المال والملايين التي تصرف والملايين التي تجبى وفقط.
بدايةً هناك أجهزة تدعى “الأوديميتر”، وهي أجهزة وظيفتها قياس نسب المشاهدة للقنوات الفضائية، وبالتالي تمكنهم الأجهزة من قياس نسب المشاهدة لبرنامج أو عمل فني أو أي محتوى يقدم على الشاشة، والحق أن تلك الأجهزة صُنعت للمعلنين أصحاب المصانع والشركات في المقام الأول، حتى يتسنى لهم تحديد القناة التي سوف يعلن فيها، والمسلسل الذي يسجل نسب مشاهدة مرتفعة يغري المستثمر المعلن لكي يضع إعلان منتجه قبل أو أثناء أو بعد هذا العمل، ويدفع في المقابل الكثير حتى يجني من مبيعات مؤسسته الأكثر، وبالتالي هو بذلك الاختيار لذلك المسلسل يضمن رواج بضاعته وبالتالي استمرار نشاطه وبالتالي استمرار الكثير من الموظفين والعمال داخل مصنعه في عملهم وإعالة عيالهم!
أليس هؤلاء العمال غلابة قد استفادوا من الرواج؟
نعم هم غلابة لأن كلًا منهم لا يملك إلا وظيفته، ولو فقدها سوف يصبح من المعدمين!
ثم شركات الإعلانات نفسها التي تنفذ هذه الإعلانات بغض النظر عن الكوادر العليا فيها، أوليس بهذه الشركات الكهربائي والنجار واللحام والنقاش وعامل البوفيه والسائق و… إلخ، ماذا لو لم يلجأ المستثمر إلى شركة الإعلانات لتنفذ له إعلانه؟
بالتأكيد سوف يسّرح صاحب هذه الشركة كل هؤلاء الفنيين والصنايعية والعمال، أو على الأقل تسريح عدد منهم وتشريدهم!
ولو اقتربنا أكثر إلى المسلسلات نفسها، وما أدراك ما حجم التخصصات والوظائف والمهن داخل كل مسلسل تشرع شركة الانتاج في تنفيذه! مئات العمال ومئات الفنيين ومئات الصنايعية والحرفيين داخل كل مسلسل، ووراء تلك المئات آلاف الأفواه تريد الغذاء والدواء والكساء، ناهيك عن الرواج الاعتيادي التلقائي الذي يحدث عندما تدور العجلة، فمن المؤكد أنني كعامل حصلت على مائة جنيه كعلاوة استثنائية، سوف اقوم بزيارة الجزار زيارة استثنائية وسوف يذهب الجزار إلى محل الأحذية لشراء حذاء استثنائي لابنته ويعطي صاحب محل الأحذية لبواب عمارته بقشيشا استثنائيا يذهب به للفكهاني لشراء فاكهة استثنائية لأولاده ويعطي البواب ما تبقى لديه من فاكهة لمساكين الشارع لتستمر العجلة في الدوران ويستفيد الجميع بلا استثناء من المائة جنيه!
هنا يأتي السؤال المنطقي الحتمي عن الفارق العملاق بين فتافيت الغلابة وملايين النجوم!
فالملايين التي يأخذها الممثل الفلاني أو النجمة الفلانية هي حقا استفزاز ينسف للكثيرين كل ما نقول، ولكن.. يجب أن نلفت النظر إلى أن تلك الملايين في الحقيقة تصرف من جيب المنتج وليس من جيب أحد غيره، بغض النظر عن المبالغة الفعلية في أجور بعض النجوم، فالمنتج يدفع للنجم صاحب الاسم المطلوب من الجمهور، والحق أن تلك المبالغة أيضا السبب الرئيسي وراءها ذوق الجمهور نفسه ليس أكثر، فلقد جرت العادة السيئة أن يقرر أغلبنا مسبقا ما سوف يشاهده بناء على اسم النجم، بغض النظر عن العمل الفني الذي سيتضح مستواه مع بداية المتابعة الأولى للعمل، وللأسف المنتج مضطر دائما أن يدفع الملايين للنجم الذي سوف يضمن له بيع المسلسل للقنوات الفضائية التي تدفع المقابل، والقناة تضطر أن تدفع المقابل للمنتج كي تضمن هي الأخرى المزيد من تعاقدات المعلنين!
ولو افترضنا المباشرة -وأنكرنا أن الرواج بشكل مباشر أو غير مباشر يصل إلى أصغر الدوائر وأبعدها مشاركة في التنمية، وهي دائرة المتسولين في الشوارع بدون عمل- يمكننا ساعتها اعتبار كل ما سبق “شأنًا خاصًا” يهم فئة بسيطة لا تمثل نسبة حقيقية من غلابة مصر، ولكن ما لا يمكن إغفاله على الإطلاق هي الملايين الكثيرة التي تحصلها الدولة في شكل الضرائب، ابتداءًا من ضرائب الكسب وشرائح الأرباح، مرورا بضرائب المبيعات، وصولا إلى ضرائب الدخل التي تجبى من العاملين في هذه الصناعة، ابتداءا من الضرائب المفروضة على أجر الممثل الذي يأخذ الملايين، وانتهاءا بالعامل الذي يأخذ مرتبه آخر الشهر أو آخر انتهاء تنفيذ العمل!
والأكيد أيضًا أن مسألة التهرب من سداد الضرائب -في هذه الصناعة المعلنة المرصودة من الجميع- شبه مستحيلة! وهو ما يضمن دائمًا للدولة مئات الملايين التي تدخل خزانتها لتأمين دعم غذاء ودواء وتعليم ومواصلات الملايين من الغلابة، ليس فضلا من أحد على أحد، بل حقا، ولكن أيضا حق على الجميع أن يعطوا هذه الصناعة حقها ويقدرونها بقدرها بلا استخفاف ولا انتقاص لقيمتها.