يوسف شاهين يُبعث بصوت الشيخ رفعت فى «قرطاج»

طارق الشناوي - مقالات

نقلاً عن المصري اليوم

وجاء اليوم الثالث للمهرجان ليبرق مجددا يوسف شاهين، من خلال كلمات أصدقائه وتلاميذه ودراويشه، وما أكثرهم فى عالمنا العربى! هكذا رأيت عزت العلايلى ومحمود حميدة وخالد النبوى ودُرة ويسرا اللوزى وخالد يوسف وسيف عبدالرحمن وجابى خورى والناقدين التونسى خميس خياطى واللبنانى إبراهيم العريس، وكاتب هذه السطور.. كل منا فى الندوة التى أقامها المهرجان، وحضرها مدير قرطاج إبراهيم لطيف- أضاف لمحة ما بحكاية ولمحة وومضة عن يوسف شاهين.

إنه لا يتنفس إلا سينما، ولا يكتمل إلا أمام الكاميرا، ولا بيت له إلا فى الاستديو، وقبل رحيله ودخوله فى غيبوبة، كان يضع الخطوط العريضة لفيلمه الروائى رقم 42 «الشارع لنا»!!

لو أنك حللت كراته الدموية وخلاياه وأنسجته، فلن تجد- كما يعتقد البعض- لقطات وزوايا وشاريوه واستوب وأكشن، ولكنك ستعثر خلف كل ذلك، وقبل كل ذلك، وأهم من كل ذلك- على سلم موسيقى ومفتاح صول ومقامات شرقية وغربية وإيقاعات بلدى وتانجو وفالس وروك أند رول.. إنه الموسيقى «يوسف شاهين» الذى ظل 82 عاماً يخدعنا وهو متنكر فى صورة المخرج «يوسف شاهين».. إنه مبدع الموسيقى المرئية عبر الشريط السينمائى، وتلك هى السينما فى عمقها ونقائها وهذا هو تحديدا ما حرصت على تأكيده فى تلك الندوة.. إنه الموسيقار الذى أحال المسموع مرئيا!!

العلاقة مع يوسف شاهين لا تعرف الوسط، إما أن تتحول إلى أحد المجاذيب، وتدور فى فلكه، أو تقف بعيداً ترفض وتتحفظ وتنتقد، فتصبح خارج المدار، وغير مسموح لك أن تدخل المجرة.. وكنت أرصد يوسف شاهين دائما خارج المجموعة الشمسية الشاهينية.

أقف على الشاطئ الآخر متمتعاً بقدرتى على الحياد، فأنا لست من الذين تأخذهم نشوة الإعجاب إلى حد الدروشة فى حلقات الذكر، ولهذا أقدر سينما هذا الفنان، بقدر لا بأس به من الانتقاد، لأن التقدير يحمل فى داخله مشروعية التقييم والاختلاف على عكس الإعجاب أحادى النظرة والزاوية، وهكذا أعايش أفلام المخرج الكبير الذى استطاع طوال مسيرته فى السينما أكثر من نصف قرن أن يحافظ على قدرته على التنفس الفنى ليسبح خارج السياق أحياناً، وبعيداً عن السباق دائماً، فهو لا يقدم نوعا من السينما متعارفا عليه مسبقا، كما أنه لا يسابق أحدا سوى «يوسف شاهين»!!

حكى، مثلا، عزت العلايلى، فى الندوة كيف أنه عند عرض (الأرض) لأول مرة، 1970 انهالت عليه الشتائم، لأن الجمهور لم يتحمس لما يراه، على الشاشة، فقال له يوسف شاهين انتظر سيألف الناس الفيلم، وبالفعل صار الأرض مع مرور الزمن واحدا من أفضل ما قدمت السينما العربية طوال تاريخها.

يوسف شخصية «كاريزمية»، لها تأثير مغناطيسى على كل من يعرفونه أو يقتربون منه، وعلى المستوى الإنسانى، إذا دخلت مملكته عليك أن تعرف أن الخلاف مع يوسف شاهين هو المستحيل الرابع بعد الثلاثة الشهيرة (الغول والعنقاء والخل الوفى)، لا يتقبل يوسف شاهين بسهولة أن تقف على الجانب الآخر مما يعتقد هو أنه صحيح، رغم أنه دائماً ما يرفع شعار الديمقراطية والرأى والرأى الآخر، إلا أنه يعتبر نفسه هو المرجعية الوحيدة للديمقراطية، ودائماً هو الرأى والرأى الآخر أيضاً.

أتذكر عندما كتبت على صفحات «روزاليوسف» مقالا عنوانه «سكوت ح نهرج» نالنى منه الكثير من الهجوم على صفحات الجرائد والمجلات والتليفزيون الأرضى والفضائى.. وفى حوار لى معه مسجل تليفزيونيا بعد عرض الفيلم بعام واحد فقط سألته عن أسوأ أفلامه والذى لا يطيق أن يشاهده، أجابنى بكل بساطة «سكوت ح نصور»، هو فى داخله مدرك أن هذا الفيلم لم تكن موجته الإبداعية منضبطة تماما، ولكن لا يطيق أن تقولها أنت.. (يدعو على فيلمه ويكره اللى يقول آمين)!!

هذه التركيبة الإنسانية علينا أن نأخذها كما هى بلا فصال أو تفصيل، بحلوها الذى لا يخلو من مرارة ومرها الذى به مذاق الحلاوة، لأنك ترى يوسف شاهين الإنسان دائماً على الشاشة، لا أعنى بذلك رباعيته «حدوتة مصرية» و«إسكندرية ليه» و(وإسكندرية كمان وكمان) و«إسكندرية- نيويورك»، ولكننى أشير إلى ما يربو على 40 فيلماً، قدمها للسينما، كلها تنطق وتهتف، بل تصرخ فى كثير من الأحيان باسم يوسف شاهين فى حركة الكاميرا.. أداء الممثل من خلال هذا التفرد الذى يجمع بين إيقاع الكاميرا وإيقاع الفنان الذى يقف أمام الكاميرا الرؤية التشكيلية فى الكادر.. الوهج البصرى والسمعى- كلها مفردات تقول دائماً إن يوسف شاهين يدير ويوجه ويحلل ويحدد اللقطة، ويراجع أداء الممثل، إنه البصمة الفنية التى لها سحر ومذاق، ولكن تلك الرؤية على المستوى المرئى والمسموع بقدر ما هى غنية بقدر ما تخذلها الرؤية الدرامية التى لا تصل فكرياً إلى شموخ ما تراه وتسمعه وما تتمنى أن تشعر به، ولهذا فإن يوسف شاهين دائماً ما يتناقض مع الكتاب أصحاب الرؤية الذين يتعامل معهم ويصطدم بهم وبعنف غالباً، ومن يتوافق مع يوسف شاهين هو من يسبح فى بحر يوسف شاهين، بأخذ مفردات يوسف الفكرية، بل اللفظية أيضاً، ويلعب عليها.

لقد اصطدم معه مثلاً محسن زايد فى «إسكندرية ليه» 1979 ووصل الخلاف إلى المحاكم مع يوسف إدريس فى «حدوتة مصرية» 1982. وحكى لى الفنان والكاتب الكبير الراحل «حسن فؤاد» أنه كان يذهب إلى الاستديو ومواقع تصوير فيلم «الأرض» يومياً ومعه عصا كبيرة يشهرها فى وجه صديقه «يوسف شاهين» مداعباً إياه بها حتى يضمن ألا يضيف يوسف شاهين شيئاً إلى السيناريو، والحوار الذى كتبه حسن فؤاد عن قصة عبدالرحمن الشرقاوى، وكان على استعداد أن يدخل فى معركة لو لم يلتزم يوسف شاهين. والواقع أن يوسف شاهين حتى عام 1970 «الأرض» كان يمنح مساحة لكى يقدم مذاقاً آخر فى مفردات الحوار ويسبح أيضاً فى بحر فكرى يتوافق معه ويؤمن به، فهو يكتفى بأن يقود سفينة الفيلم، لكنه لا يملك البحر!

لو تتبعت الأسماء التى كانت تكتب أفلام يوسف شاهين، وتنفرد هى فى العادة بالسيناريو والحوار، لوجدت عدداً من المحترفين أمثال السيد بدير، وعلى الزرقانى، وأبوالسعود الإبيارى وعبدالحى أديب، ووجيه نجيب، حتى فى أفلامه الأولى التى كان يشارك يوسف فى كتابة السيناريو مع نيروز عبدالملك أو حسين حلمى المهندس- سوف تلمح أن هؤلاء الكتاب لهم حضورهم على الشريط السينمائى، لكن منذ فيلم «الاختيار» عام 1971 ومساحة يوسف شاهين تزداد، ويسيطر بمفرداته فى أدق التفاصيل، ومنها فى جمل الحوار حتى إنه عندما بدأ فى الاستعانة بجيل آخر من الكتاب فى «وداعاً بونابرت» 1985 مثلاً يسرى نصرالله ومحسن محيى الدين- سوف تلمح أنهما يقدمان فى الحوار مفردات «شاهينية».

إن المطلوب ممن يكتب مع يوسف شاهين أن يلتزم بذلك فى السيناريو أو الحوار، وأكثر من هضم هذه المفردات هو خالد يوسف الذى بدأ رحلته مع يوسف شاهين عام 1994 مع فيلم «المهاجر» ومنذ ذلك الحين فإن خالد يوسف له حضوره فى السيناريو والحوار «المصير» 1997، «الآخر» 1999، «إسكندرية- نيويورك» 2004، وحتى فيلمه الأخير «هى فوضى» كان يساعده فى الإخراج فى البداية ولكن مع استمرار العمل كان خالد يوسف صاحب القرار، لأول مرة، فى «هى فوضى» لأن يوسف لم يعد قادراً على المتابعة لكل التفاصيل، فهو فيلم نلمح فى بنائه «خالد يوسف» ولكن به قدر من نبضات «يوسف شاهين».. إنه حالة خاصة ولهذا كان لا بد أن يكتب الأستاذ اسم تلميذه لأول مرة بجواره، لأنه تجاوز دور المساعد، وأصبح على الشاشة، يعبر عن قناعاته هو، ولو راجعت أفلامه التى ساعد فيها «يوسف شاهين» قبل «هى فوضى» سوف تكتشف أن «خالد» يعيش إلى حد التقمص لروح يوسف شاهين فى الحوار والسيناريو ولكنه لا يعبر بالضرورة عن أفكاره هو، والدليل أنك لو شاهدت أفلام خالد يوسف «العاصفة» و«زواج بقرار جمهورى» و«إنت عمرى» و«ويجا» «خيانة مشروعة» «حين ميسرة» وصولا إلى (كف القمر) لوجدت مذاقاً إخراجياً ودراميا ومنهجاً آخر فى التفكير.

دائماً فن قيادة الممثل أحد الأسلحة المهمة جداً للمخرج، وبالنسبة ليوسف شاهين هو سلاح باتر وحاد، يطبقه وفقا لمفهومه كما أشار بذلك محمود حميدة فى ندوة (قرطاج).

فى أول أفلامه الروائية «بابا أمين» الذى أخرجه فى الثالثة والعشرين من عمره، وأسند بطولته إلى حسين رياض، طلب من هذا العملاق أن يلتزم بأسلوب يوسف شاهين فى الأداء، ولهذا ظل هذا الفيلم مختلفاً عن كل الأفلام التى شارك فى بطولتها حسين رياض الذى كان أقل انفعالاً وخطابية وأكثر شاعرية!!

فى فيلم «الأرض» الذى لعب بطولته محمود المليجى.. قال لى يوسف شاهين إن المشهد الأخير الشهير لمحمود المليجى، وهو ينتقد أهل القرية، ويقول لهم (كنا رجالة ولاد رجالة).. هذه اللقطة أعادها يوسف شاهين أكثر من 25 مرة، واللقطة التى نراها فى الفيلم هى اللقطة رقم «25»، لأنه فى كل مرة كان يطلب من محمود المليجى إعادة الأداء ليحصل منه على تلك الذروة، التى دخلت كلاسيكيات السينما العربية باعتبارها لقطة لا تنسى.. قال لى «يوسف شاهين» إنه بعد أداء «المليجى» 24 مرة كان كل العاملين فى الاستدديو يصفقون إعجاباً بالمليجى.. 24 مرة صفقوا إلا هو لم يقتنع إلا فى المرة رقم «25»، ولكنه لم يصفق!

فى نهاية الندوة، تذكرت لحظة النهاية عندما ودعنا يوسف شاهين فى الكاتدرائية، حيث قال البعض إن وصية يوسف شاهين هى أن يخرج جثمانه من جامع عمر، وبصوت الشيخ محمد رفعت، الذى كان متيما بأدائه للقرآن، وبقصر نظر اعتقدوا أنه بتلك الوصية يُشهر إسلامه، بينما فى الحقيقة، إن يوسف شاهين لم يكن يريد سوى أن يدرك الجميع أنه مع الإنسان بعيدا عن اللون والعقيدة.

وكما تغنى منير فى (حدوتة مصرية) بكلمات عبدالرحيم منصور، وموسيقى أحمد منيب (يهمنى الإنسان ولو ما لوش عنوان)، شعرت أن يوسف شاهين يعود إلينا، فى (قرطاج)، تنفذ وصيته وكأننا نستمع معه إلى صوت محمد رفعت، فى نقاء وصفاء ليبعث من جديد!.