إيهاب التركي يكتب: إبراهيم عيسى في أرض البهجة - E3lam.Com

حينما كان إبراهيم عيسى يقف أمام قاضى محاكمته بسبب مقالاته حول صحة الرئيس الأسبق حسنى مبارك، كان يستمد قوته وتماسكه من ثقته فى أن مقالاته وتساؤلاته حول صحة الرئيس فعل صحفى وسياسى مشروع، وحينما كانت جلسات المحاكمة تتوقف، ويسود داخله الصمت رغم صخب الحضور المحيط به، كان يسرح بخياله فى تفاصيل مشاهد فيلم «الرجل الثانى»، يتذكر شخصياته وحواره وكادراته وأغانيه وحتى عدد الكؤوس المرصوصة على البار فى خلفية أغنية «عطشانة» التى كانت تُغنيها صباح أمام رشدى أباظة وصلاح ذو الفقار. لماذا يتذكر هذا الفيلم تحديدا؟ لا يوجد تفسير سوى أنه من الأفلام المحببة إليه، ومشاهدته تجلب الراحة وتخفف توتره.

هى طريقة غريبة للتخلص من القلق، ولكنها تدل على تغلغل السينما داخله، وتأثيرها عليه. فى فيلم المخرج الدنماركى لارس فون تراير Dancer in the Dark «راقصة فى الظلام» كانت بطلة الفيلم سلمى، الأم العزباء تفقد بصرها تدريجيا، وعلى وشك أن تفقد وظيفتها بسبب أخطائها المتكررة، وفقدت حلم حياتها أن تصبح راقصة مسرح استعراضى لضعف بصرها، وحينما كانت تُحاكم بتهمة القتل، كانت فى ذهول من صخب المحكمة، تخيلت فى حلم يقظة أنها فى عرض مسرحى موسيقى، تحول القضاة والمحلفون وهيئة الدفاع والجمهور والصحفيون إلى فريق استعراضى غنائى مُبهج يحاول تخفيف توترها، وكانت بيورك بطلة الفيلم تغنى بثقة أن هناك من سيأتى فى اللحظة المناسبة (كما فى الاستعراضات) ليلتقطها قبل أن تسقط على الأرض. كانت البطلة تعيد صياغة الواقع المؤلم حولها ليشبه استعراضات الأفلام السينمائية القديمة التى تحبها.

لا يعرف القارئ والمشاهد التليفزيونى إلا إبراهيم عيسى الكاتب الصحفى المهتم بشؤون السياسة، والمتشابك مع التراث والتاريخ، ولكنه أيضا مشاهد مُدمن للسينما العالمية، ومهتم بشكل عام بالفنون كجزء من اهتماماته الثقافية، كان أول كتاب أقرأه من تأليفه كان عن الأغنية البديلة فى مصر، كتبه بمشاركة الكاتب الصحفى الراحل عبد الله كمال زميله فى البدايات فى مؤسسة روزاليوسف. حينما أصبح رئيس تحرير صحيفة الدستور كان يكتب فى الصفحة الأولى مقالا سياسيا لاذعا حول غياب الديمقراطية، ومقالا آخر فى الصفحة الأخيرة حول غياب أسطورة الغناء مايكل جاكسون بوفاة مفاجئة، وهل يعرف إبراهيم عيسى مايكل جاكسون؟ نعم يعرفه كما يعرف محمد فوزى، ويعرف جوليا روبرتس كما يعرف فاتن حمامة، ويعرف أيضا مايكل مان مخرج دراما الإثارة والأكشن Heat «اللهيب»، ويعشق أعمال أكيرا كوروساوا المخرح اليابانى العظيم، ولديه أفق مفتوح للمشاهدة السينمائية، يبدأ من أعمال هيشكوك، وأفلام النوار القديمة، مرورا بكلاسيكيات الستينيات والسبعينيات فى هوليوود، وحتى الأعمال المعاصرة لكوانتن تارانتينو، وحينما عرضت عليه بعض مشاهدة الدراما التليفزيونية المتطورة فى السويد والدنمارك وإنجلترا أصبح شغوفا بمشاهدتها، ومتابعة أخبارها، والشعور بالإحباط من سوء الدراما المصرية بعد زمن أسامة أنور عكاشة الذى يهدى إلى روحه أعداد مجلة «فرجة»، وهى حلم من أحلامه الصحفية، مجلة تقدم رؤية بديلة للصحافة الفنية بعيدة عن المجلات النمطية الغارقة فى أخبار النجمات والنجوم، وتعبر عن إيمانه بسحر السينما والخيال كما كتب فى كلمته للتعريف برؤية المجلة.

كنت حريصا على إرسال ما يتوفر لدى من أعمال درامية أوروبية ويابانية وصينية ومن أمريكا الجنوبية إلى صديقى فى حب الأفلام، مدمن السينما العالمية الذى يشاهد يوميا عددا من الأفلام والمسلسلات لا يشاهدها بعض النقاد وكُتاب الصحافة الفنية.
أعلم أنه مشاهد قديم لأفلام الفيديو فى حقبة الثمانينيات والتسعينيات، ولديه حصيلة مشاهدة كبيرة، وكان فى بداياته الصحفية متابعا جيدا لأفلام المهرجانات السينمائية العالمية، ولهذا هو مُطلع على أساليب متنوعة ومدارس مختلفة للدراما فى العالم، وأظن أن السينما هى المنافس الوحيد فى حياته للقراءة، والفرجة على الأفلام جزء من حياته اليومية، وهو ينفعل ويتفاعل بها، وبيننا رصيد كبير من الحوارات الهاتفية التى يعبر بها عن تأثره ببعض الأعمال الدرامية الأصيلة، وهو لا يخجل من الاعتراف بتأثره ببعض الأفلام لدرجة البكاء، ويعتبر بعض أعمال الخيال العلمى مرعبة، أعمال مثل «ماتريكس» حيث حياة البشر مجرد جزء من برنامج كمبيوتر متطور، أو حينما يقدم كريستوفر نولان حكايته المخيفة فى فيلم Inception عن إمكانية زرع الأحلام والأفكار داخل شخص فى أثناء نومه، أو حينما يصبح برنامج ذكاء صناعى بديلا للتواصل الإنسانى والحب كما فى فيلم Her للمخرج سبايك جونز.

إبراهيم عيسى بعيدا عن السياسة وهمومها يتحدث عن الأفلام بحالة بهجة، ويتفاعل معها، ويتركها تتغلغل إلى مشاعره، يستطيع بخبرة متفرج خبير التمييز بين الغث والثمين، ولا يتعالى على الأعمال المسلية الخفيفة الجيدة، فهو يرى أن الترفيه فى الفن عنصر حيوى وهام، الأفلام الجادة التى تخلو من جاذبية الترفيه تظل تجارب مغلقة على ذاتها، تُخاصم الجمهور، له تجربة نقدية متميزة فى برنامج «فرجة» الذى كان يحلل فيه عناصر الأفلام قدم حلقات عن عناصر الإبداع السينمائى، ليس فقط التمثيل والإخراج، بل تصميم الأفيش، والموسيقى التصويرية، والاستعراض، وتعمق فى مدلولات ورموز مشاهد أفلام يوسف شاهين وصلاح أبو سيف وكمال الشيخ وآخرين، والبرنامج كان يُذاع على قناة فن التابعة لشبكة أوربت المشفرة.

الوجه الإيجابى الوحيد لسوء حال السياسة فى مصر أنها تشغله عن التفرغ للكتابة فى الفن، وتمنحنى وزملائى فى الصحف الفرصة للكتابة عن السينما دون منافسة ناقد خطير، ومثقف يعشق السينما، ويتخذها مصدرا للمتعة والإبداع والثقافة، ووسيلة لتهذيب المشاعر، وشحن الوجدان بالبهجة.

46436