نقلاً عن المصري اليوم
تجربة اسثنائية تؤكد قوة منظمات المجتمع المدنى
كنت أريد أن أتحدث عن غضب بعض المصريين من الفيلم الرائع (أبدا لم نكن أطفالا) للمخرج محمود سليمان، والمرشح بقوة للتانيت الذهبى- حيث تعلن الجوائز السبت القادم- كأفضل فيلم تسجيلى طويل بعد أن بدأت رحلته مع الجوائز قبل عام فى مهرجان (دبى)، وحصل على المُهر الذهبى أفضل فيلم وأفضل مخرج، مع الأسف لايزال البعض ينظر تحت قدميه متسائلا عن سمعة مصر وكيف تُعرض هذه الأفلام خارج الحدود، وكأننا لم نصل بعد للألفية الثالثة، والتى أسقطت من خلال الصورة وسرعة انتشارها كل الحدود والقيود.
كنت أريد أن أتحدث عن هذا الجمهور التونسى الذى شاهدته يتدفق بالمئات لمشاهدة فيلم تسجيلى مصرى، ومن لم يتمكن من الحصول على تذكرة ضعف عدد من حصلوا عليها، كنت أريد أيضا أن أتحدث عن المرأة التونسية التى تقود وتتصدر المشهد فى الدفاع عن حريتها وحقوقها وفى أبسط الأمور، مثل أن يعاد عرض الفيلم لو تأخروا فى الدخول، وكان السبب هو إدارة السينما، تفاصيل عديدة تستحق التأمل والرصد، ولكنى أرجأت كل ذلك بسبب هذا المشهد الاستثنائى.
لأول مرة أشاهد فيلما سينمائيا فى السجن ومع عدد من النزلاء يتجاوزون 500 مسجون، الفيلم (زيزو) للمخرج فريد بوغدير، المهرجان متخم بالأفلام والندوات، ولكنها تجربة من الصعب تكرارها، ولا يمكن سوى أن تسعى إليها حتى لو كبدك ذلك خسارة 6 ساعات من اليوم المشحون بالأفلام والندوات، أن تشاهد فيلما سينمائيا وأن تحضر نقاشا يتناول كل التفاصيل الفنية مع مساجين لا أظنها دعوة من الممكن أن تقاوم، كل من التقيناهم لديهم أحكام خفيفة نسبيا تتراوح بين شهور وبضع سنوات (جُنح)، ولم أكن أعلم أن الزيارة فى اليوم الثانى لسجن الجنايات رجال، واليوم الثالث جنايات نساء، حيث الجرائم أبشع والأحكام أكثر قسوة وغلظة، لو كنت أعلم كنت اعتذرت عن الجنح وذهبت مباشرة للجنايات، ولكن ولأنه من المستحيل بالطبع أن أترك المهرجان، وما ذهبت لأجله من القاهرة وأتفرغ فقط للذهاب يوميا للسجون، والتى بطبعها كما يحدث فى العالم كله تقع على أطراف المدينة، وتستهلك الكثير من الزمن، حقيقة لم أملك الشجاعة الأدبية لكى أدير المؤشر الخاص بداخلى لأتفرغ فقط للتواجد فى السجون.
اكتشفت أنها لم تكن الأولى، ولكن فى العام الماضى بدأت هذه الرحلة من خلال منظمة أهلية ترفع شعار (لا للتعذيب)، سألت المسؤولة عن أوضاع سجناء الرأى فى تونس؟ أجابتنى: لا يوجد، قلت لها لا أحد يسمى سجناء الرأى سجناء رأى، كثيرا ما نتحايل على التوصيف، ونبحث عن أسباب أخرى، ولهذا يقضون العقوبات باعتبارها أحكاما جنائية وليست سياسية، أكدت لى أنها تدرس كل الحالات، وأن المجتمع المدنى فى تونس يملك قوة أدبية ولا تستطيع الدولة أن تمنعه من ممارسة حقوقه المشروعة فى مراقبة السلطة التنفيذية حتى داخل السجون، وأن المسجون فى تونس له كل الحقوق، والنشاط لتلك المنظمة يتجاوز أيام مهرجان قرطاج، ليقدم طوال العام حفلات غنائية يحضرها مجانا مشاهير المطربين، وأن فريق التمثيل بالسجن ينتقل من جدران الزنازين إلى المسارح العامة ويعرضون مسرحياتهم، لأن الغرض الأساسى من العقاب هو الإصلاح قبل العقاب، صحيح أن الأحكام سالبة بطبعها للحرية، إلا أن التخوف من صدمة ما بعد الإفراج يجعلهم حريصين على التمهيد للإفراج، حيث إن المسجون يعيش عادة صدمتين، الأولى السجن بالطبع، والثانية- خاصة إذا ما طال به البقاء داخل السجن- هى صدمة الحياة بلا جدران، فلا يستطيع أن يتعامل مع المجتمع ببساطة.
من المؤكد أنك تسأل الآن ما هى علاقة جمهور المهرجان بزيارة السجون التونسية؟ ملحوظة منظمات حقوق الإنسان فى مصر هل يتمكن أعضاؤها مثلا من تحقيق هذه الزيارات للمساجين، فما بالكم لو تواكب ذلك مع دعوة ضيوف أجانب؟ المجلس القومى لحقوق الإنسان فى مصر، والذى يرأسه الأستاذ الكبير محمد فائق، كثيرا ما اشتكى أعضاؤه من عدم تمكنهم هم شخصيا من زيارة السجون إلا وفق معايير خاصة وإجراءات صارمة، فما بالكم لو فكرنا، ومهرجان القاهرة السينمائى الدولى على الأبواب، أن ندعو بعض ضيوف المهرجان لزيارة السجون، نعم لو كان الأمر متعلقا بتوصيل صورة للعالم لصالحنا لنفذناها فورا، كما قرروا فى تونس، ولكن لا أظن أننا لدينا هذه الشجاعة فى اتخاذ مثل هذه القرارات، نسيت أن أقول لكم إن مدير المهرجان، إبراهيم لطيف، ترك جانبا كل مهامه وتفرغ لتلك الزيارة، لأنه يعلم سياسيا أهمية أن يرى العالم بعيون غير تونسية ما يجرى فى السجون، هل تتخيل مثلا أن ماجدة واصف، رئيسة مهرجان القاهرة، ويوسف شريف رزق الله، المدير الفنى، يذهبان مع الضيوف إلى سجن القناطر الخيرية.
فى تونس الإجراءات لا تتجاوز أن يحصلوا على بطاقة الهوية، وأن تغلق فقط التليفون المحمول والتصوير مسموح به لو وافق السجين، بالطبع التعليمات هى ألا نجرى حوارا مع المساجين إلا إذا طلبوا هم ذلك، وإن كنت قد لاحظت مثلا أن فى الفيلم عندما بدأت الندوة كانت كاميرا الفوتوغرافيا تصور لقطات عامة ولم يعترض أحد من المسؤولين، ولكن عندما أراد مصور تليفزيونى أن يلتقط سؤالا من مسجون وجهه للمخرج بعد عرض الفيلم، رفض تصوير الكاميرا، وكان له ما أراد، ولقد علمت من مذيعة نايل سينما، إنجى على، أنها أجرت حوارا مع مسجون ملأت لوحاته جنبات السجن، فهو يمارس الفن ويقضى العقوبة بسبب إدمانه المخدرات وهو حاليا يتلقى العلاج، ورغم ذلك فهو لم يشارك فى حضور العرض السينمائى لأنه لا يحب السينما، وأجرت إنجى الحوار صوتا فقط، لأنه رفض أن تلتقطه الكاميرا.
وتوقفت فى الحقيقة أمام اختيار فيلم (زيزو)، زيزو شاب خفيف الظل يعانى فى الحصول على رزقه ويعمل فى العديد من المهن حتى يستقر به الأمر فى النهاية ليصبح بالصدفة بطلا ثوريا، الفيلم يقف على الحدود الزمنية ما قبل ثورة الشعب التونسى ضد بن على، حيث شاهدنا لوحات النفاق التى تدعوه إلى خوض الانتخابات فى 2014، وتحولت إلى 2041، وعندما لاحظ صاحب الشركة هذا الخطأ انزعج فى البداية، ثم وجدها فكرة صائبة لكى يوجه لزين العابدين رسالة أنه يريده 25 عاما أخرى. ملحوظة أغلب الأفلام التونسية المشاركة فى المهرجان رسميا، كانت تلك الفترة الزمنية الشائكة قد شكلت نقطة الانطلاق.
الفيلم بالمناسبة مصنف فوق 18، ومثل هذه الأعمال الفنية لجمهور أغلبه من الشباب ومحروم بالطبع من ممارسة حقوقه الشرعية، تشكل خطورة، ولكن تعامل النزلاء مع كل هذه المشاهد بالتصفيق والضحك.
ما الذى يعنيه أن تذهب للسجن وتجد على الجدران شعار المهرجان؟ أن هذا الشعب يعيش كل التفاصيل السينمائية، لا معنى آخر، وأنه يعتبر قرطاج هو مهرجانه، لا فرق بين مواطن يتمتع بحريته أو فقد حريته داخل السجن إلا أنه لم يفقد انتماءه للوطن.
الفنان التونسى يتواجد بالمهرجان، هكذا رأيت هند صبرى ودرة وفريال يوسف وهن يتجولن فى المهرجان ويوجهن للضيوف الدعوات لحفلات على نفقتهن الخاصة، فهو ليس مهرجان دولة، صحيح أن وزارة الثقافة التونسية هى التى تتولى إقامته منذ نصف قرن، ولكن الصحيح أيضا أن هناك مجتمعا مدنيا يطالب بأن يتولى المسؤولية فى إقامة مهرجانه، ويبقى أن نسأل إدارة المهرجان لماذا شعرنا بأن المهرجان يضع اللغة الفرنسية هى الأولى، وتتجاوز العربية، حتى جدول العروض بالفرنسية، وكان من الممكن أن يقر، وهو أضعف الإيمان، الإنجليزية أيضا بجوار الفرنسية، خاصة أن توجهه العربى- الأفريقى يجعل المساواة بين اللغتين فى حالة الترجمة واجبة، دعونا غدا نناقش تلك النقطة الشائكة، وقبلها سر هذا الجمهور التونسى الرائع العاشق حتى الثمالة للفن السابع!!.