فى قمة مجد جريدة الدستور، الإصدار الأول (ديسمبر 1995- فبراير 1998) استضافت إذاعة البرنامج العام فى برنامج رمضانى، الكاتب الصحفى إبراهيم عيسى، رئيس تحرير الدستور، وسأله المذيع: ما الجديد الذى قدمته أنت وقدمته جريدتك «الدستور» للصحافة؟
ضحك عيسى ضحكته الشهيرة ثم بجدية مخلصة ليس بها أدب قرود أو التواضع الكاذب، رد قائلًا: كل ما قدمتُه وما قدمَتْه الدستور صنعه قبل عشرات السنين الأستاذ محمد التابعى، على الناس أن تعيد قراءة تجربة التابعى فى الصحافة المصرية، فكلنا فى الصحافة عيال على التابعى.
انتهت شهادة عيسى على نفسه وعلى تجربته الرائدة فى الدستور، وتلك الشهادة أرى الآن أنها لا تمثل كل الحقيقة، فهى مع بعض المبالغة تمثل ما يقرب من نصف الحقيقة.
النصف الباقى هو إنجاز عيسى وتجديده.
وأصل القصة أن عيسى عندما أطلق الدستور كان فى ريعان شبابه، فوق الثلاثين بسنة أو اثنتين، وكان قد قرأ ودرس أهم التجارب الصحفية التى شهدتها البلاد، والوضع كذلك كان المنطقى أن يخاف عيسى أو يهاب اللجوء إلى المغامرة التى كأنها مقامرة، فالذى يريد أن يسجل وجودًا له، عليه -أولًا- أن يمشى فوق السطر الذى خطّه الآباء والأجداد، ثم متى رسخت قدماه كان من حقه أن يخط هو سطرًا جديدًا، ولكن عيسى الذى أعرفه منذ زمن الجامعة، وعملت معه فى معظم إصداراته، هو بطبعه ضد التقليد حتى لو كان التقليد هو الضمانة الحقيقية للنجاح بل للوجود.
كراهية عيسى للتقليد وللمشى على سطر خطَّه غيره كان العنوان العريض لتجديده، الذى بدأ من اختياره لاسم جريدته «الدستور»، اسم مقتحم من كلمة واحدة ذات دلالات لا تنتهى، ثم للعنوان ظلاله وإيحاءاته، وبعد اختياره لاسم جريدته بحثَ عن قالب فنى يصب فيه مادته، فلم يذهب إلى فلان أو فلان من «أسطوات» وأساتذة الإخراج الصحفى، بل لجأ إلى «أحمد محمود» الذى كان فى عمر عيسى، وأطلق له العنان وطلب منه أن يأتيه بجديد لامع لم يقدمه أحد من قبل، فكان أحمد محمود عند حسن ظن عيسى، وجاء بـ«ماكيت» جرى تقليده ونسخه بل ومسخه عبر عشرات التجارب اللاحقة على الدستور.
ذلكم كان التجديد الأول لعيسى، ثم تلَت خطوة الماكيت الجديد، اختيار المادة الصحفية وطريقة كتابتها وطريقة عَنونتها. وهنا أذكر واقعة واحدة تدلل على مدى جنوح عيسى للتجديد..
كنت أعمل معه فى «ديسك» الدستور قبيل أيام من الصدور، وجاءنى تقرير عن خضوع خمسة وزراء للعلاج فى فترة وجيزة.
سألنى عيسى: كيف ستكتبه؟
قلت: سأبدأ بتأمل الحالة الصحية لدولة شاخت على مقاعدها (وكان هذا تعبيرًا شهيرًا صكّه الأستاذ هيكل)، ثم بعدها سأنتقل إلى وصف الحالة الصحية لكل وزير مريض مع التنبيه إلى أن المرض أمر طبيعى جدا لرجال فى مثل أعمارهم المتقدمة جدا.
قال عيسى: هذا جيد، ولكن كيف ستضع العنوان الجامع؟
قلت: سيكون عنوانى هو «الحكومة فى المستشفى».
فصاح: الله أكبر، هذا ما أريده تمامًا.
كل ما سبق هو تفصيلة صغيرة دالّة على تجديد عيسى، الذى أشهد له بأنه قَطّ لم يقف فوق رأس مُحرر أو رجل ديسك يُملى عليه تصوراته ويلزمه بطريقة فى المعالجة. عيسى يضع الخطوط العريضة، ثم لكلٍّ حرية التصرف والمعالجة.
ثم من علامات تجديد عيسى أنه كان يبدو كأن قراراته وليدة اللحظة، ولكن الحقيقة كانت غير ذلك تمامًا، فهو قبيل صدور «الدستور» كان يضع فى درج مكتبه العناوين الرئيسية لأهم خمس قضايا سيفجرها فى الأعداد التالية، وكثيرًا ما كان يستشهد بجملة لافتة للراحل الكريم المعمارى الفذ «حسن فتحى»: إنه بيت أبى الذى كل خطوة فيه بحساب.
نعم، كان تعامل عيسى مع الدستور كتعامله مع بيت أبيه، لابد من أن يظل عامرًا ومرحبًا بكل أولاده ولا يطرد أحدًا حتى لو جنح أو شرد.
ثم كانت له عين لاقطة مُقامرة، جاء ببلال فضل وهو دون الخامسة والعشرين من عمره ليجعله سكرتير عام التحرير، وعندما عارَضه بعضهم فى اختياره لبلال، قال: سيكون أهم سكرتير تحرير فى البلد.
ويوم اختارنى رئيسًا للقسم الثقافى، استثقلت أنا المهمة، فوضع يده على كتفى وقال هامسًا: «مش حضرتك برضه عايز تشارك فى تحرير المسجد الأقصى؟».
قلت: نعم.
فرد ساخرًا: طيب يا أخى قل هذا لنفسك، يعنى واحد عايز يحرر الأقصى وخايف من تحرير صفحة فى جورنال، تيجى إزاى دى؟
عيسى فقط هو الذى سمح لجيل كامل بأن يكتب كما شاء متى شاء، حتى لجوء بعضنا لبعض العامية فى الكتابة كان يتركه دون مشاجرات تشهدها جرائد أخرى.
ولعل إنجازه الكبير فى ملف تجديده يكون فى اختياره لكُتاب جريدته، فقد جاء بالشباب الذين فوق العشرين ودون الثلاثين، ثم جاء بمدفعية ثقيلة تمهد لهم الميدان؛ من أمثال الأساتذة صافى ناز كاظم وجلال أمين وأحمد فؤاد نجم وحسين أحمد أمين وأسامة أنور عكاشة ولينين الرملى ونجلاء بدير وعماد الدين أبو غازى وسيد خميس وصلاح عيسى ومحمد حلمى هلال، وآخرين.
وكان إذا سقط منه كاتب يسارع فورًا بالاتفاق مع مَن هو أعلى منه أو يساويه على الأقل، ثم يترك للجميع حرية الغناء وفق قدرات أحبالهم الصوتية.
وعلى ما سبق، فأنا أعتبر عيسى الحفيد النابه والناجح والشرعى لرائد التجديد محمد التابعى، وأخشى ما أخشاه أن يظلم التاريخ عيسى كما ظلم التابعى الذى يتعامل معه البعض بوصفه برنس أو لورد الصحافة المصرية، وبعضهم ينظر إليه بوصفه حبيب أو عشيق أو خطيب المطربة أسمهان، وذلك دون نظر مُنصف لحال الكتابة الصحفية قبل التابعى وبعده.
لا أتمنى لعيسى مصيرًا مشابهًا عندما يحصره بعضهم فى دائرة الرجل الصارخ فى البرية، عيسى أستاذ مُجدد وله تلاميذه ومدرسته الخاصة التى وُلدت لتبقى بإذن الله ولطفه.