عالم إبراهيم عيسى الروائى جديرٌ بالبحث والتأمُّل، والعلاقة بين شخصيته كأديب وكصحفى متشابكة إلى حد كبير، يكفى أنك أحيانًا تبحث فى ضميرك وأنت تقلِّب بين صفحات رواياته عن أشخاص مشهورين فى الواقع يحملون نفس صفات أبطال الرواية، قد يكون عيسى كتب عنهم منتقدًا سلوكهم فى إحدى مقالاته، أو هاجم تجاوزاتهم وفسادهم على صفحات جريدته، أو على الأقل قرأ بحنكته وخبرته ما تخفيه وجاهتهم المصطنعة، ليكشف زيفهم دائمًا قبل أن يفعل الزمن، وقد ظهر ذلك جليًّا فى روايات، مثل «مقتل الرجل الكبير» و«مولانا» على سبيل المثال، ومع ذلك فإن الكنز الحقيقى فى مقتنيات عيسى الأدبية يكمن فى الروايات التى لم تلقَ ما تستحقه من شهرة كبيرة، لا سيما القديم منها.
لا أمتلك الرقم الدقيق لعدد مؤلفات عيسى الأدبية، فكلما زاد البحث والتنقيب طفت على السطح كنوز مخبوءة ما بين روايات وقصص قصيرة يتولد مع اكتشافها رغبة حقيقية فى اقتنائها، وفى السطور التالية والمرتبة بها أسماء الروايات من الأقدم إلى الأحدث من حيث الصدور، اخترت سبعة كنوز أدبية للأستاذ، جاءت غالبيتها أقرب إلى الحب منها إلى السياسة، لأخبرك معلومة عن ظروف صدور كل منها..
«العراة» 1992
رحلة إبراهيم عيسى مع الرقابة طويلة، وذات فصول متعددة، سواء على مستوى الصحف التى قام بتأسيسها وأغلقت بعد فترة، أو حتى الكتب التى قام عيسى بكتابتها وتمت مصادرتها، ولعل المحطة الروائية الأولى فى تلك الرحلة كانت مع رواية «العراة»، حيث تمت مصادرتها بقرار من الأزهر بدعوى جرأتها على أخلاقيات المجتمع، كما سحبت من معرض القاهرة الدولى للكتاب فى العام نفسه، وعنها قال عيسى فى إحدى مقالاته «رغم أن الوسط الأدبى لم يتحمل يومها (1992) أن تصادر رواية لشاب فى السابعة والعشرين من عمره، فلم يدافع عن الرواية، ولم يدفع عنها الضرر والمصادرة، لكن سلسلة مصادرات الأزهر التى أعقبت تلك الرواية أجبرت الجميع على الانتباه والتنبه إلى خطورة المصادرة، لكن من ناحية أخرى يبدو من الغريب أن الساحة الأدبية والثقافية فى مصر كانت تحتفى دائمًا بالرواية التى تصادرها جهات دينية أو لأسباب دينية من خلال الأزهر، ويدافع الجميع فى الساحة الثقافية عن هذه الرواية أو تلك فى الصدور والنشر (وهذا حق وواجب بالمناسبة)، بينما كان يسكت ويخرس تمامًا الوسط الأدبى والصحافى عن مصادرة جهاز أمن الدولة ووزارة الداخلية رواية تتحدَّث عن الرئاسة والحكم الديكتاتورى المستبد».
«مريم التجلى الأخير» 1993
رواية مكتوبة بمزيج خصب بين التاريخ والواقع، حيث تتناول الواقع الصحفى فى الثمانينيات، وتربط بشكل متفرد بين متناقضات هذا العالم وبين قصة نبى الله إبراهيم والسيدة مريم، وقد يكون هذا الربط المربك والشيق فى ذات الوقت هو السبب فى كلمات الناشر التى دونت للتعريف بالرواية، حيث قال «إنها رواية فى كل الأحوال تضمن لك قليلاً من التوتر وبعض الارتباك.. وكثيرًا جدًّا من الصدمة (أما عيسى نفسه فقد قال واصفًا لها: فلما تجلت ستنا مريم عادت بقوة إلى وجدانى وتفكيرى روايتى (مريم التجلى الأخير) التى صدرت عام 1993 عن روايات (دار الهلال)، وتدور أحداثها فى واقع الصحافة المصرية، حيث أبطالها وناسها وشخوصها منحوتون من هذا المجتمع الذى التحقت به صغيرًا جدًّا وأنا فى التاسعة عشرة من عمرى حين دخلت مجلة (روز اليوسف) وعملت بها منذ عامى الأول فى كلية الإعلام، وكانت تلك الرواية حصيلة السنوات الثمانى الأولى فى علاقتى بالمهنة، وهى السنوات المسؤولة عن إنزالك من عالم المثالية والأحلام إلى عالم الواقع والكوابيس، وكان القلب غضًّا والعقل بكرًا والروح شفافة والوجدان زجاجيًّا ينكسر من غلظة نسيم ويتهشَّم بريح الحقيقة، وعدت لقراءة الرواية ورأيت كم كنت وحدى وكم كنت حزينًا وكم كنت أبله متصورًا أنه يمكن للحياة أن تكون على غير ما تعودت أن تكون، الرواية عن انكشاف الزيف والتزييف فى الحياة الصحفية والعاطفية وتهاوى أحلام الحب وفشل تغيير مصر للأعذب والأجمل والأصدق، وكل هذا محوره ستنا مريم!».
«دم على نهد» 1996
لماذا لم تتحوَّل تلك الرواية المشوقة إلى فيلم سينمائى حتى الآن؟ سؤال لابد أن تسأله لنفسك بمجرد ما أن تنتهى من قراءتها، فالرواية جريئة على كل المستويات ومشوقة فى آن واحد، تفضح أساليب الأجهزة المخابراتية فى ظل الدولة الأمنية، وتحكى لنا عن الحقيقة تلك التى تتمنى أن لا تكون قد عرفتها أبدًا، من خلال شخصية الصحفية مى الجبالى، التى تجرى سبقًا صحفيًّا بسلسلة حوارات مع السفاح «محمود حلمى» قبل إعدامه، رغبة منها فى إعداد كتاب عنه، ليبوح لها فى كل لقاء بأسرار لم يعترف بها فى التحقيقات، فترتبك علاقاتها به، وتصبح حياتها فى خطر، الرواية أعيدت طباعتها عدة مرات، وفى مقدمتها إهداء إلى العظيم الراحل صالح مرسى.
«صار بعيدًا» 1997.. قصص قصيرة
مجموعة قصص تحاكى الواقع اليومى للعائلة المصرية البسيطة صدرت عن الهيئة العامة للكتاب ضمن وقائع مهرجان القراءة للجميع، وهى عبارة عن تشكيلة من الذكريات المشتركة التى لابد أن يجد كل شخص منا نفسه فى إحداها، كلحظة وداع مسافر، أو لحظة مشاهدة مباراة قمة، أو حتى لحظة فرح تجمع العائلة كلها، يمكن اعتبارها سيرة ذاتية عن عيسى نفسه يسرد من خلالها ذكريات الطفولة والدفء العائلى وطقوس المجتمع المصرى من خلال ثمانية فصول، هى: «السفر.. الليلة نفسها والسفر ذاته» «الفرح.. مبروك يا قمر» «الأهلى والزمالك.. النخل لم يعد نخلنا» «رمضان.. مراعاة فروق التوقيت» «المطر.. القطار الخاطئ يصل المحطة» «العيد.. هل وجدت الكرة» «العودة.. الطريق البرى» «الموت.. جاء إبراهيم.. ليذهب إبراهيم»، أما مقدمة المجموعة القصصية فقد اختار لها الأستاذ كلمات عبد الرحيم كمال، لأنه يعلم تمامًا أنها ستتردد فى ذهن القارئ مع كل قصة «قول للغريب حضنك هنا.. دربك قريب من دربنا.. بيتك هنا أهلك هنا.. حزن البشر ده حزننا».
«مقتل الرجل الكبير» 1999
فى قالب أدبى بوليسى يتناول إبراهيم عيسى مقتل رئيس الجمهورية بصورة غامضة، وكيف تم نقل السلطة إلى شخص آخر، والالتفاف حول إرادة الشعب وخداعه.
كتبت هذه الرواية عام 1999، ويقول إبراهيم عيسى إنها ارتبطت بظروف معينة، منها وفاة والدته ومنع جريدة «الدستور» من الصدور عام 1998، وسفره إلى أمريكا عند أحد الأصدقاء، ليكتب هناك كل يوم من الساعة التاسعة صباحًا حتى الواحدة ظهرًا، ومن الخامسة حتى التاسعة مساءً، لمدة 35 يومًا.
ولم تتحمَّس أى دار نشر، آنذاك، لنشر الرواية لأن اسمه كان ممنوعًا من الصحف، ولم يكن مسموحًا له بالكتابة، إضافة إلى منعه من إصدار أية صحيفة فى ذلك الوقت، فطبع الرواية على حسابه الشخصى وتعاقد مع مؤسسة صحفية كبرى لتوزيعها، وانتظر الأسبوع الأول ثم الثانى لتوزيع الرواية، إلا أنها لم توزَّع. وعلم من مدير التوزيع بأن أمن الدولة زار المؤسسة الصحفية بسبب روايته وتمت مصادرتها، فطلب أن يحصل على نسخة من أمر المصادرة، فأعلموه أنه لا توجد ورقة رسمية بذلك: الرواية منعت وصودرت والسلام.
فطلب من المؤسسة الصحفية استرداد الثلاثة آلاف نسخة من الرواية ليقوم بتوزيعها بنفسه، فتم إعلامه بأنه ليست لديهم أية نسخة من الرواية! وبعد 48 ساعة طلب منه رئيس مجلس إدارة المؤسسة الصحفية أن يحضر ليستلم مبلغًا من المال مقابل بيع جميع نسخ روايته! فكان هذا القرار مخرجًا للمؤسسة من مأزق المصادرة ومطالبة المؤلف بنسخه، وبذلك تكون رواية «مقتل الرجل الكبير» هى أكثر رواية كسب فيها إبراهيم عيسى فى حياته، فقد بيعت جميع نسخها خلال 3 ساعات!
شعبية هذه الرواية زادت كثيرًا بعد ثورة يناير، لأن الطريقة التى تناول بها مقتل الرئيس بصورة غامضة ونقل السلطة إلى شخص آخر بصورة تقليدية مخادعة لإرادة الشعب وسط تسليم من كل الأحزاب والجهات بهذا النقل جاءت بطريقة توحى أن الرئيس المقتول انتهت صلاحيته وحان الوقت لوضع شخص جديد فى هذا المنصب، لتجديد السيطرة على السلطة، مما يدل على موهبته النادرة فى استشراف المستقبل السياسى.
«قصة حبهم» 2009
«سيناريو إبراهيم عيسى»، هل قرأت تلك الجملة من قبل؟ إذا كنت لم تفعل فدعنى أخبرك أنها كتبت على غلاف إحدى طبعات رواية «قصة حبهم»، التى تغيَّرت بعد ذلك إلى جملة «قصة حقيقية»، والتى تحكى عن كواليس وأسرار الصحافة الخفية، ذلك العالم الذى يعرفه عيسى جيدًا، وعن الرواية يقول «عالم الصحافة لم يعد يظهر على شاشة السينما المصرية إلا مصحوبًا بكل (جهل) جميل بتفاصيله وطقوسه وشخوصه، ما نشاهده فى أفلام هذه الأيام هو استنساخ لما يعرفه المؤلفون والمخرجون من أفلام عبد الحليم حافظ وأنور وجدى وليلى مراد، أما حقيقة عالم الصحافة فى مصر فهى حقيقة سوداء وحمراء وبيضاء لون علمك يا مصر، وهذا السيناريو إحدى مميزاته (إذا كانت له مميزات أخرى يبقى «فل») أنه يتحدث عن عالم حقيقى وعن قصة حب حقيقية.. أو حب مش حقيقى قوى لكن القصة حقيقية.. للأسف».
«عندما كنا نحب» 2010
بغلاف حالم طبعت على واجهته صورة للفنانة فاتن حمامة صدرت تلك المجموعة القصصية التى قال عن فهرسها إنه ليس مجرد عناوين لقصص المجموعة بل عناوين لقلبه الذى كان، وقد تكون تلك الجملة مؤشرًا قويًّا على أن الأستاذ قد نزع عن نفسه فى تلك المجموعة القصصية عباءة السياسى الشرس المهاجم، ليرتدى عباءة الرجل الرومانسى الحالم «وجه بعيد لامرأة بعيدة ولكنك لا تظهرين فى الشرفة أبدًا تنزع قلبى من مكمنه.. وترميه باب مفتوح على قلبى ليس أمامنا إلا الأحلام صباح اليوم التالى، ماذا تقول فى الرحلة؟ لا تزال أمى تذكر حبيبتى القديمة.. هذا ليس فهرس عناوين لقصص المجموعة.. هذه عناوين لقلبى الذى كان».