حدث هذا في يناير 2001، حين التقيته صدفة في معرض القاهرة للكتاب.
على غير عادتي المريضة بـ”هسهس مراقبة المشاهير أو الكتاب الكبار دون الاقتراب منهم”، وجدت نفسي أهرول خلفه واستوقفه في جراءة غير معتادة “يا أستاذ إبراهيم”. بلطف استدار وصافحني في مودة وألفة وابتسامة عريضة كأننا تزاملنا يوما في مدرسة قويسنا الثانوية بنين. قلت له كلاما في أغلبه غير مفهوم، لكنه بفطنة وذكاء يميزون مشواره الصحفي كله، أدرك أني من “مجاذيب الصحافة”، وأني أنظر إلى تجربته المقصوف عمرها “الدستور- الإصدار الأول 1995″، بإفتنان وإنبهار، وكيف راح مني إذ فجأة جزء من عالمي السحري عندما توقفت الدستور عن الصدور بقرار فوقي بعد عامين ونصف فقط من صدورها الذي كان مفصليا وفارقا في تاريخ الصحافة المصرية تماما مثلما حدث حينما صدرت الأهرام قبل أكثر من 150 عاما، وحينما كسرت روزاليوسف وشقيقاتها الصغرى “صباح الخير” التقاليد الصحفية الكلاسيكية، وعندما قرر مصطفى أمين أن يعلم على صحافة العالم بتأسيسه لأخبار اليوم في الأربعينييات من القرن الماضي.
في هذا اليوم الشتوي البارد، ووسط الهناجر التي تمتلئ بآلاف الكتاب. تبادلت مع الأستاذ إبراهيم عيسى حديثا قصيرا دافئا، انتهى بأن اعطاني رقم تليفونه المحمول الذي كان يبدأ بـ012 (لم يتغير الرقم حتى يومنا هذا)، وزاد عليه بأن اعطاني في طمأنينة غريبة رقم هاتف شقته في الهرم أيضا وكأنه يعطيه لابن خالته الذي لم يلتقيه منذ زمن.
طوال أربع سنوات لاحقة، كان عيسى محاصرا في كل تجاربه الصحفية. كانت تجربة الدستور شابة وعفية وثورية بدرجة لاتسمح مطلقا -من وجهة نظر أي سلطة فاسدة- بتكرارها من جديد. كنت أتتبع مغامراته ومثابرته وتنوعه وثراءه الصحفي بانبهار شديد.
أجده يكتب عدة أسابيع في جريدة الميدان “كانت من أوائل الصحف المستقلة في زمن مبارك”، ثم يختفى. يظهر في صوت الأمة كاتبا لمقال حراق لعددين أو أكثر ثم لايظهر على صفحاتها من جديد. أراه يكتب في الموسيقى ذات مرة في عدد وحيد من مجلة لافتة اسمها “مزيكا”- أسسها محسن جابر- قبل أن تختفي المجلة كلها في ظروف غامضة. ابحث عن رواياته وكتبه في كل زيارة للقاهرة، في زمن لم تكن فيه هناك “مكتبات ألف أو ديوان”، ولاسبيل لأبناء المنصورة أمثالي لشراء الكتب إلا فرع الهيئة العامة للكتاب “وده مستحيل يجيب كتب إبراهيم عيسى”، أو فرشة صحافة المحطة في أول السكة الجديدة والذي كان يكسر التقاليد ويأتي بكتب مغايرة أحيانا، من بينها بعض كتب عيسى لكن ليس جميعها. اقرأ رواية “دم على نهد”.. يادين النبي، إيه الجمال المرعب ده “لازلت اعتبرها من أجمل رواياته على الإطلاق”، ثم أغوص في رواية “صار بعيدا”، فأرى نفسي وأسرتي وعالمي الخاص متجسدا في براعة وإبداع، فأشعر كأنه يجلس بيننا في بيت جدي الكبير، يراقبنا من عل ويكتب.
وعندما التحقت بالعمل محررا محترفا لأول مرة في موقع بص وطل الشبابي عام 2004، كان إبراهيم عيسى بطل أول حوار صحفي أجريه في حياتي، وجرت وقائع هذا الحوار عبر تليفون “ميناتيل”، الذي أصبح أثرا بعد عين الآن، وقفت حينها في شارع الأهرام بالكوربة، أساله عبر الأسلاك، فيجيبب متدفقا، وأظن أن هذا كان أول حوار ينشر لإبراهيم عيسى على الإنترنت. وكان حوارا جرئيا وصاخبا كعادته، ويتجاوز بمئات الأمتار السياسة التحريرية للموقع الناشئ، لكنه نشر كاملا بأعجوبة.
بعد ذلك الحوار بعدة أشهر، جائني اتصالا هاتفيا مختصرا ومبشرا “الدستور راجعة. تيجي؟”، وده سؤال. عندما ذهبت إلي المقر “شارع بولس حنا بالدقي” اكتشفت أن الدستور ستعود كروح تحت اسم آخر “الغد”.أي نعم غد أيمن نور. كأي صحفي مبتدئ كنت تائها لا أعرف “مين بيودي على فين”، ظللت مراقبا في صمت. وفي ليلة طبع العدد الأول علمت أن الجريدة تم منعها من الصدور. في الصباح اتصلت بائسا متكدرا حزينا، بالأستاذ إبراهيم فرد علي في اهتمام وود كأن من يسأله عما حدث هو محمد حسنين هيكل شخصيا. كان متفائلا بشكل أثار استغرابي. ولديه يقينا بأن الجريدة إن لم تصدر اليوم ستصدر الغد. وطلب مني أن أكون مستعدا في أي وقت .”مستعد إيه؟ هو أنا عملت حاجة أصلا قبل كده”. بشكل غريب انتقل تفاؤله لدي عبر أسلاك الهاتف. ومن يومها يبدو أني صرت متفائلا بزيادة.
لم تمر أسابيع على هذه المكالمة، إلا وكأن يستعد مجددا لإصدار الدستور نفسها هذه المرة. وبدا الأمر بالنسبة لي أكثر من قدرة فائقة على التفاؤل وسط وقائع محبطة، وإنما قدرة على قراءة واستشراف ما هو آت وحتمي. لم يقتصر ذلك فحسب على السوق الصحفي ودهاليزه. وإنما أيضا فيما يتعلق بقدرته على التنبوء بما سيحدث في محيطات السياسة الصاخبة، التي يصعب توقع موجاتها القادمة، لكنه دوما كان يفعلها حين بشر كثير بثورة قادمة عبر صفحات الدستور أو عبر سطور رواياته “مقتل الرجل الكبير”، لكن أحدا لم يتوقع أو يستوعب. ولو كان الأمر بيد المرء، لنصح أهل الحكم دوما بالحذر من نبوءات إبراهيم عيسى.
وإذا كانت هناك دروسا كثيرة يمكن استلهامها من مسيرة إبراهيم عيسى الصحفية، وقد عشت على هامشها مراقبا ومتعلما لعدة سنوات، فإنه يمكن إيجاز بعضا منها فيما يلي:
1- الصحفي الذي لايقرأ في الأدب والسياسة والتاريخ والفلسفة والأديان وعلم النفس ولا يتابع بنهم آخر ما تقدمه استديوهات العالم من أفلام ومسلسلات، ويستمع إلى ألبومات آصالة وأنغام وعمرو دياب وإليسا، بتركيز وكأنه يتابع أم كلثوم وهي تشدو على المسرح، عليه أن يمارس أي مهنة أخرى سوى الصحافة.
2- لاتقض أوقات هزائمك وإنكساراتك في لعن الدنيا فقط. إلعن معها الظروف والمجتمع وسوء الحظ، ووسط هذا وذاك، استعد للجولة القادمة من المعركة المستمرة أبدا.
3- الصحافة “كيف” و”مزاج” لأصحاب الموهبة الربانية لاشفاء منه قط حتى بالظهور اليومي في التليفزيون.
4- الشجاعة ليست فقط في أن تقول رأيك، وإنما في أن تشجع الآخرين على الكلام.
5- أكبر وهم في الصحافة هو أن تكون “محايدا”. حتى وأنت تكتب خبرا مجردا، فإن نفسك بين السطور تنحاز إلى طرف على حساب آخر دون أن تدري.
6- الانحيازات العلنية ثمنها مكلف. لكنها هي التي تصنع الأسماء التي تعيش في التاريخ.
7- احذر من التقلبات المزاجية لكل من يفعلون النقاط الستة السابقة