أُعلنت نتائج أكبر وأهم انتخابات يعرفها العالم؛ انتخابات الرئاسة الأمريكية، وقد انهالت قبلها على مدى شهور التوقعات والتكهنات من هنا وهناك بمن سيفوز بالمقعد الوثير في المكتب البيضاوي. الكل يزعم ويحلل، كثيرون يعلقون ويقتبسون تعليقات.. لكن عاملا مشتركا كان واضحا في معظم هذه الآراء ووجهات النظر، ألا وهو الإجماع على أن حظوظ المرشح الجمهوري دونالد ترامب (الآن الرئيس المنتخب) لن تكون مرتفعة، بل إنه في أفضل الظروف سيلجأ هو وغريمته الديمقراطية هيلاري كلينتون إلى المحكمة العليا كما حدث في انتخابات عام 2000 بين جورج دبليو بوش الابن وألبرت أرنولد آل جور.
ورغم ما حملته هذه التوقعات والتكهنات من حجج منطقية وإحصاءات بدت صحيحة، وبالتالي استنتاجات ينبغي أن تكون أقرب إلى الواقع، إلا أن هذا لم يحدث. فقد تلقى العالم صدمة ربما فاقت الصدمة التي لطمت وجهة الاتحاد الأوروبي بعدما صوت الناخبون البريطانيون في الاقتراع على البقاء داخل الاتحاد الأوروبي بالرفض، واختاروا “الخروج”. الخروج هذه المرة في الولايات المتحدة لم يكن خروجا من منظمة إقليمية أو اتحاد كونفدرالي، بل كان خروجا عن الأعراف السياسية والتوقعات الحزبية، خرج الأمريكيون عن انسياقهم الأعمى وراء آلة الإعلام الأضخم في العالم، لم يهتموا باستطلاعات الرأي التي كانت “تؤكد” أن هيلاري هي الرئيسة رقم 45 لبلاد العم سام، وأنها ستواصل تحقيق “الحلم الأمريكي” على طريقتها بالطبع.
***
إذن.. هل يمكن القول إن الإعلام وأدواته أخفق هذه المرة؟ وهل وسائل الإعلام لم تدرك- رغم الخبرات المتراكمة لمخضرميها- ماذا يتعين فعله حتى يقنعوا الرأي العام المحلي بما يريدون؟ أليس هذا الإعلام هو من صنع الفزاعة الكبرى من أن ترامب سيكون المدمر للولايات المتحدة بل والكوكب بأكمله؟ (مع عدم النفي بإمكانية حدوث ذلك) كيف غاب عن أباطرة الإعلام الأمريكي تغيُر الذهنية الأمريكية وعدم اكتراثها بما يقدمونه من تحليلات ونصائح ورؤى؟ ألم يحن الوقت إذن كي يقر هذا الإعلام بأنه فشل فشلا ذريعا في تسويق ما يريد، أو يعترف بأن أدواته المعرفية والإحصائية والقياسية انهارت تماما أمام وسائل أخرى أكثر نجاعة، أدوات اعتمدت على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى الاستجابة لما يدور في ذهن المواطن الأمريكي ورغبته الدائمة في أن يرى “البطل الخارق” حتى لو كان بذيئا يتحرش بالنساء ويشير إليهن بكلمات فاحشة أو عنصريا يرفض الآخر، ولم لا؟!
***
لم تكف استطلاعات الرأي حتى عشية يوم التصويت عن التأكيد على أن هيلاري هي الفائزة، بدون أدنى شك يساورهم، بل وسار الإعلام الدولي على هذا الدرب، ونقل عن أعرق المؤسسات الصحفية والإعلامية ما تقول إنها استطلاعات للرأي. ولتفسير حقيقة ما حدث، أمامنا فرضيتان؛ الأولى: أن استطلاعات الرأي تلك لم تكن سوى مجموعة من الأكاذيب والتكهنات غير المستندة إلى أدلة واقعية، وتم الترويج لها على نطاق واسع بصورة متعمدة، لتحقيق مكاسب ومآرب محددة.
أما الفرضية الثانية، فهي عدم جدوى آلية عمل الاستطلاعات، وغياب الدقة عنها، فضلا عن انعدام صفة التعميم على نتائجها، أي أن الآلية التي يتم قياس الرأي العام بها لم تعد دقيقة، وأن ثمة متغيرات حالت دون الوصول إلى هذه الدقة. وأعتقد أن هذه المتغيرات تتمثل في احتمالية أن يكون الاستطلاع تم على عينة غير عشوائية، أي أنه تم اختيار العينة بعناية فائقة، بغية الوصول إلى النتائج المرجوة، وهذا لا ينفي أنها تمت وفق أسس منهجية، فالشر له منهج كما الخير.
ولا أريد هنا ورغم الجملة السابقة أن أحوّل الأمر إلى ثنائية بين الخير والشر، والثواب والعقاب، بل- بكل صدق من جانبي- التفتيش في تفسير واضح لما حدث.
***
أضرب لكم مثالا بما حدث عشة الانتخابات الأمريكية الأخيرة. وكالة رويترز للأنباء أوردت نبأً عاجلا بأن استطلاعا للرأي أجرته بالتعاون مع مؤسسة إبسوس الشهيرة في مجال بحوث الرأي العام والاستطلاعات، أظهر أن فرص فوز هيلاري كلينتون بالرئاسة تصل إلى 90 في المئة، وهي نسبة كبيرة للغاية، تضع احتمالا لا يتجاوز 10 في المئة لإمكانية الخسارة. وقس على ذلك استطلاعات محطة “سي إن إن” وغيرها.
دعك من ذلك، انظر ماذا حدث بعد إعلان فوز ترامب، ظهر من يريد القول إن ترامب فاز بفضل دعم كبار السن له، وللأسف مانشيت صحيفة “المصري اليوم” في عدد الخميس 10 نوفمبر 2016 وضع هذه الفرضية دون أن يتثبت المحرر من صحة الادعاء، أو أن يعقد مقارنة مع نسب التصويت السابقة، والآن نجد البعض يحتفي بهذه “المعلومة”-كما يظن- رغبة في عقد مقارنة لا سبيل لها من تطبيق على أرض الواقع.
والحق أن الارقام المنشورة ليست سوى نتائج ما يعرف باستطلاع ما بعد التصويت “Exit Poll”.
أمعنوا النظر في هذا الانفوجراف الصادر عن مؤسسة “سيركل” للمعلومات والبحوث “Circle”، فالأرقام تتشابه إلى حد بعيد، والمقارنة بين نتائج انتخابات 2012 وانتخابات 2016 تكاد تكون متقاربة، باستثناء بعض الزيادات الطفيفة، بل وفي المقابل تراجعات طفيفة كذلك.
فمثلا حصل الحزب الجمهوري في انتخابات 2016 على 53 في المئة من أصوات الفئة العمرية 65 عاما فما فوق، مقابل 45 في المئة منهم ذهبت أصواتهم إلى الحزب الديمقراطي، وبالمقارنة، نكتشف أن انتخابات عام 2012 حصل الجمهوري على أصوات 56 في المئة من هذه الفئة، أي أن نسبة الانتخابات السابقة أكبر بنحو 3 في المئة عن انتخابات هذا العام. وبالمقابل حصل الديمقراطي على 44 في المئة من أصوات هذه الفئة، أي أقل بنحو 1 في المئة.
وأزيد لك من الشعر بيتا، حصل الحزب الجمهوري في انتخابات 2016 على أصوات 37 في المئة من الفئة العمرية (18-29 عاما) وهي نفس النسبة السابقة في انتخابات عام 2013 بالتمام، بينما حصد الحزب الديمقراطي على نسبة 55 في المئة من أصوات هذه الفئة العمرية في انتخابات 2016، وهي نسبة تقل بنحو 5 في المئة عن انتخابات 2012 عندما استقطب 60 في المئة من أصوات هذه الفئة.
***
إنها مفارقة عجيبة أن تكتشف قدر التزوير والتزييف في الوعي عبر ألاعيب وسائل الإعلام؛ إذ يتضح لكل من امتلك عقلا في رأسه أن هذه النسب هي ذاتها التي تكررت في الانتخابات السابقة. والأكثر دهشة الإحصائية التي أعدتها المؤسسة البحثية سالفة الذكر، وهي مقارنة بين مشاركات الشباب في الانتخابات بين عامي 1972 و2016؛ حيث تظهر المقارنة المستندة لنفس المصدر، أن منحى تصويت الشباب للحزب الديمقراطي لم يحقق ارتفاعا أمام الحزب الجمهوري إلا منذ انتخابات العام 1996، عندما فاز بيل كلينتون بولاية رئاسية ثانية، وقفز هذا المنحنى الديمقراطي لأعلى مستوى أمام الجمهوري في انتخابات عام 2008 التي شهدت الفوز المذهل لباراك أوباما ليكون أول رئيس من أصول أفريقية. ومنذ ذلك الحين ونسبة مشاركة الشباب لصالح الحزب الديمقراطي آخذة في التراجع، مقابل زيادة لأصوات الشباب لمرشحي الحزب الجمهوري.
***
الخلاصة، أن الآلة الإعلامية لم تعد ذات ثقة أو مصداقية بالدرجة الكافية، فيما يتعلق بتحريك الرأي العام، بل إن معلومة صغيرة عبر فيسبوك أو تويتر ربما تهز دولة بأكملها، أو أن مقطع فيديو لمواطن يشكو ضنك العيش يتم بثه على قناة لا يتجاوز عدد مشاهديها أفراد طاقم الاستديو، لا يلقى اهتماما إلا بعدما ينتشر كالنار في الهشيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي من الخليج إلى المحيط بكل صدق.
جيل الألفية “Millennials” بكل أسف بات أكثر عرضة لمثل هذا النوع من الإعلام، الذي يضلل ولا يضيئ الطريق، الذي يزيف الوعي ولا يشجع على البحث والتحليل. بات العاملون كذلك في الصحافة من أبناء هذا الجيل لا يكترث بالبحث عن صحة المعلومة التي يتلقاها، لم يعد يفند ما يستقبله من المصدر، وتحول إلى طرف في المعادلة الإخبارية، رغم أنه ليس سوى عارض أو شارح لها.