نقلا عن البوابة
من اللحظة الأولى وأنا عازف تمامًا عن التفاعل مع ما قيل إنه دعوات لثورة غلابة فى ١١/١١، لن أدعى فهمًا دون الآخرين، ولكن لأنى أنظر إلى الأشياء من زاوية مختلفة طول الوقت.
لأسابيع عديدة تحولت ١١/١١ إلى أيقونة، البعض ينفخ فيها، والبعض يعتبرها مجرد بالون فارغ، الذين نفخوا فيها ونسجوا تصورات هائلة عن اليوم التالى للثورة التى لن تبقى ولن تذر، والذين هونوا من شأنها وشأن من يدعون لها سخروا وقاموا بما يشبه ثورة «الألش»، لكننى ذهبت إلى ما يمكن اعتباره الحجم الحقيقى لمثل هذه الدعوة التى لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة أبدًا، فستعقبها دعوات أخرى، بأيام جديدة، ومطالب مختلفة، ونجوم جدد، فالذين أزاحهم الشعب المصرى بتحد وإرادة عن مقاعد السلطة لن يستكينوا ولن يهدأوا، سيواصلون إزعاجًا، لأنهم لا يريدون لهذا الشعب أن يهدأ ولا لهذا الوطن أن يستقر.
نرشح لك : محمد الباز يكتب: لماذا لا يخاف عبد الفتاح السيسى على شعبيته؟
١١/١١ بالنسبة لى لم تكن سوى حرب استنزاف منظمة، يعرف الداعون لها أهدافهم جيدا، يعرفون أنهم لن يستطيعوا حشد الناس فى الميادين مرة أخرى، لن يكونوا قادرين على أن يسود هتاف «الشعب يريد إسقاط النظام» مرة أخرى، لن يتمكنوا من حرق الأخضر واليابس مرة أخرى.. وكل ذلك ليس لأن النظام السياسى قوى بما يكفى، ولكن لأن للشعب المصرى سره الذى يعز على الكثيرين معرفته والتعاطى معه بشكل حقيقى.
لقد أورثت الخبرة التاريخية المتراكمة هذا الشعب قدرة حقيقية على الشعور بالخطر الحقيقى، والتهديد الجاد، ولذلك فهو يعرف متى ينزل إلى الشوارع والميادين ضد حاكمه، ومتى يجلس فى بيته انتظارًا لما تسفر عنه الأحداث، متى يتحرك بعنف ضد من يرى أنهم يسطون على حقه، ومتى يراقب الأحداث حتى تنكشف أسرارها وما تسفر عنه، متى يحتشد فى الميادين يهتف بغضب، ويتصرف بعنف، ومتى يسخر ممن يدعونه إلى الاحتشاد، لأنهم يملكون أجندات خاصة، وأهدافًا تصب فى مصالحهم الخاصة، وليذهب هو إلى الجحيم.
على هامش الدعوة لـ١١/١١ أدرك الشعب المصرى أن الخطر فى النزول وليس فى عدم النزول.
منذ أيام قليلة كنت أتحدث إلى سائق تاكسى حديث الثرثرة الذى يقتل ملل الشوارع المزدحمة، وجدته يقول لى: «شيخ مسن يتجاوز الستين عامًا بقليل قال لى: لازم تنزل يوم ١١/١١، ولما سألته: ليه لازم؟ قال لى: عشان ولادك يا أخى، انزل عشان يعيشوا بكرامة فى البلد، انزل طالب بحقوقهم، أنت عاجبك اللى إحنا عايشين فيه ده، اللى بيحصل فينا ده حرام».
كان سائق التاكسى الذى لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره غاضبًا، يقول: «أنا شغال ليل ونهار زى اللى مربوط فى ساقية، كل اللى أنا عاوزه أربى الولد والبنت كويس، مش عاوز أكتر من كده، الضغوط كتير، أسعار مجنونة تزيد كل يوم، شائعات من كل حتة عاملة لخبطة كبيرة، لكن أنت عاوز الحقيقة، أنا قلت للراجل المسن ده (ولو نزلت أتظاهر وخدت رصاصة مين هينفع ولادى ومين هيربيهم)، وبعدين أنا لو نزلت أصلا تفتكر فيه حاجة هتتغير، بالعكس الحكاية هتتنيل أكتر، على الأقل دلوقتى إحنا عايشين بصعوبة، لكن لو قامت ثورة تالتة مش هنعرف نعيش أساسا».
يمكن أن تتعالى على كلام هذا المواطن البسيط، لكن إذا تأملته قليلا، ووضعت إلى جواره كلام مواطنين آخرين يتحدثون بنفس المنطق، ونفس الحماس، ستجد أننا أمام أسباب للغضب، يمكن أن تتفهمها جيدًا ويمكن أن تسخر منها، لكنها فى النهاية موجودة، لكن لا توجد أسباب للثورة.
تقول الخبرة السياسية المجردة إن الثورة عمل إيجابى يسعى إليها المظلومون والمستضعفون والمغلوبون على أمرهم حتى يحصلوا على حقوقهم، حتى تتبدل حياتهم إلى الأفضل، لكن التجربة الثورية فى مصر أورثت المصريين خوفا ورعبا وفزعا وتشاؤما منها، ستحدثنى عمن سرقوا الثورة، سأوافقك تماما، ستقول لى إن هناك ثورة مضادة، لن أخالفك الرأى، ستصب غضبك كله على شوية العيال الذين حولوا الثورة إلى لعبة، لن أمنعك من ذلك تماما، ستعيد على مسامعى حديث المؤامرات الخارجية والقوى الملعونة التى أنفقت المليارات لتفسد ثورة مصر وتقضى على نهضتها، سأترك كل الصفحة بيضاء تماما، لتقول كل ما تشاء، وتكتب كل ما تريد.
لكن بعد كل ذلك سأقول لك إن النتيجة فى النهاية لم تكن فى صالح الثورة، ما بين أيدينا الآن هو رغبة فى الهدوء حتى نخرج من اللعنة التى حاصرتنا بداية من ٢٥ يناير ولا تريد أن تغادرها حتى الآن، أن نتفرغ للبناء بعد أن تهدم كل شىء من حولنا، أن نقف على أقدامنا منتصبى القامة، بعد أن حاصرتنا العوجاء من كل مكان.
لا أستطيع ولا يستطيع غيرى أن يقول إن كل شىء تمام، وإن البلد فى أحسن وضع، لو فعلنا ذلك نكون كاذبين ومنافقين ومخادعين، ولا نستحق إلا الرمى بالأحذية، ولكن الأوضاع المهترئة التى بين أيدينا تجعلنا نقول إننا لو تأخرنا أكثر من هذا فلن يكون كل شىء تمام، ولن يصل البلد إلى أحسن وضع.
لو أردتم الإنصاف فكلنا غاضبون.
لا أحد فى مصر يشعر بالراحة، ولا حتى الرئيس عبدالفتاح السيسى نفسه.
تذكرونه عندما وقف فى افتتاح مشروع المليون ونصف المليون فدان فى الفرافرة عندما قال إننا نعيش فى شبه دولة، ورغم أنه لم يغادر الواقع فى خطوة واحدة عاتبناه ولمنا عليه، وقلنا له ما كان يجب أن تقول هذا وأنت رأس الدولة، لكنه لم يكذب ولم ينافق ولم يخادع بل قال الحقيقة التى لا يريد أن يصدقها أحد.
وتذكرونه عندما قال إنه كلما وضع يده فى مكان وجده مرتعًا للفساد والإهمال، وبدلًا من أن نتحاور حول ما قاله، سخرنا منه مرة أخرى، وتساءلنا عن مسئوليته عما يقوله، وقلنا: هل لم يكن يعرف حجم المسئولية التى هو مقبل عليها؟ ونسبنا أنه جاء إلى الحكم وهو يمد يديه للجميع، كى يعملوا معه، وعندما تأكد أنه يعمل وحده، بعد أن جلس الشعب فى مقاعد المتفرجين بدا غضبه.
غضبنا كان مختلفا، تعاملنا مع عبدالفتاح السيسى بطريقة تقليدية، هى طريقتنا التى اتبعناها مع كل من حكمونا قبل ذلك، نأتى بهم إلى السلطة، بعد أن نرجوهم أن يقبلوا المسئولية، ثم نطلب منهم أن يقوموا بكل شىء، دون أن نتحمل عناء المشاركة، ولو حتى بالدعاء لهم بالتوفيق.
لم ننتظر طويلًا، ولما تأخر السيسى علينا غضبنا منه، وتركنا مساحة كبيرة ليلعب فيها من يريدون به وبنا شرًا، ورغم أن غضبنا مردود عليه، إلا أنهم حاولوا تحويل الغضب إلى ثورة، وطالبونا أن نقوم بها نيابة عنهم، ثم جلسوا فى غرفهم المغلقة ينتظرون أن نخرج ونهزم لهم النظام، ليعودوا هم من أجل جمع الغنائم.
لم يدرك المغيبون أننا نمتلك أسبابًا كثيرة للغضب، لكننا لا نمتلك أى أسباب للثورة، على الأقل على طريقتهم، وهو ما يجب أن ننتبه له جيدًا، فالذين ينفخون فى النار لا يريدون إصلاحًا، بقدر ما يرغبون فى العودة للسفينة مرة أخرى، وهم لا يمانعون إطلاقًا فى حرق السفينة ومن عليها، اعتقادا منهم أنهم سيقومون ببنائها مرة أخرى.
لن أسخر من خلو الشارع فى ١١/١١، ولن أضحك بهستيريا على من دعوا إليها، ومن كانوا ينتظرون منها شيئا ملموسا على الأرض، لن أشمت فيمن خطوا، ومن جلسوا فى الاستديوهات الباردة ليحرضوا على هذه الأرض الطيبة، ولكننى سأتوقف قليلا عند ما جرى.
١١/١١ لم تكن دعوة حقيقية لثورة، فالغلابة لا يصنعون ثورة، يمكن أن يقوموا بأعمال عنف، قطع طرق، سطو على مساكن ومحال، قتل وتخريب، ولذلك كان الحديث عن الغلابة مجرد غطاء للهدف الأكبر، وهو حرب الاستنزاف التى يقوم بها أعداؤنا.
منذ أسابيع ومصر بأجهزتها مشغولة بـ١١/١١، ما قبلها وما بعدها، مَنْ خطط ومَنْ مول، وبث شائعات تفاعلنا معها، وأجهزة أمنية تجهز نفسها تحسبا لأى مفاجآت، وتكلفة هائلة، وإرهاب نفسى، ولعب بالمشاعر، بلد كامل متوقف فى انتظار ما سيجىء، رغم أنه فى أمس الحاجة لكل دقيقة عمل وإنجاز حقيقى على الأرض.
نجح خصومنا فى استنزافنا ما فى ذلك شك.
وإذا سألتنى ما الذى يجب أن نفعله حتى لا نقع فى هذا الفخ مرة أخرى؟
سأقول لك: ليس علينا إلا أن نثق فى أنفسنا وفى مستقبل بلدنا، وأن نعمل من أجل حياة ترضينا، نعيشها بلا غضب، أقول نعمل جميعا، دون أن نتبادل الاتهامات، تعاملوا مع غضبكم جميعا حتى لا يتمكن منكم، واجعلوا الغد لنا ولأبنائنا دون خوف، ولا تلتفتوا لمن يديرون بنا شرا، فهل هذا كثير؟ بالطبع لا.