1- الحفيد وميلاد البهجة
فى 23 ديسمبر عام 1974 كان العرض الأول لفيلم الحفيد للمخرج عاطف سالم، وهو الفيلم الذى تحَول بعد ذلك إلى واحد من أهم كلاسيكيات السينما المصرية وأحد أكثر أفلامها المبهجة، فيلم ترَبت عليه أجيال كثيرة وتعلقت به، وما زالت حتى اليوم أغنية مشهد الختام (حلقاتك برجالاتك) والتى غناها الراحل العظيم عبد المنعم مدبولى مع الأطفال هى أغنية ( السبوع ) الوحيدة التى تملكها مصر.
غنى حسين الجد أو الأستاذ مدبولى احتفالا بمولد حسين الحفيد ، ابن ابنته أحلام أو الفنانة (منى جبر) وزوجها المهندس جلال أو الفنان (محمود عبد العزيز) لتبقى الاغنية خالدة حتى اليوم وكأن مصر ستظل تحتفل على الدوام بسبوع هذا الطفل ابن محمود عبد العزيز والذى كان يظهر للمرة الأولى على شاشة السينما لترتبط لحظة ميلاد هذا النجم الكبير بأهم ما قدمته السينما المصرية احتفاءً بمولود جديد، وكأن كل هذه البهجة والاحتفال كانت من أجله هو ، وكأن الشاشة الذهبية تعلم ما سيقدمه هذا الفنان مستقبلاً من فن وإبداع غير مسبوق فأرادات أن تحتفل بظهوره الأول على طريقتها الخاصة وبما يليق به وبموهبته الوليدة والفريدة من نوعها،
فى فيلم الحفيد كانت بهجة الميلاد احتفالاً بميلاد البهجة .. ميلاد الساحر محمود عبد العزيز ..
2- السبعينات .. زمن محمود ياسين
السبعينات تلك الحقبة الصاخبة والمليئة بالتحولات الكبرى، على مستوى السينما كان هذا زمن محمود يا سين الذى وجد فيه شباب هذا العصر الصورة المثالية التى تعبر عنهم بسوالفه الطويلة وقمصانه المفتوحة وبنطلونات (الشارلستون) فأصبح (فتى الشاشة الأول) .. فى نفس الوقت كانت بدايات انطلاق عادل إمام وتحوله من كوميديان صغير إلى كوميديان كبير قبل أن يصبح (جان) وبطل وزعيم.
نور الشريف والذى بدء مشواره فى منتصف الستينيات قد أصبح نجمًا واعدًا صاحب أداء خاص بتركيبة مختلفة عن السائد وقتها. أحمد زكى ينحت فى الصخر لإثبات نفسه قبل أن تفرض موهبته وجودها على الجميع. حسين فهمى قد أصبح فتى أحلام البنات وخصوصا بعد دوره فى (خلى بالك من زوزو) مع السندريلا سعاد حسنى..
وحتى نجوم الجيل السابق كانوا ما زالوا متواجدين بقوة مثل فريد شوقى ورشدى أباظة وأحمد مظهر وكمال الشناوى والعديد من الأسماء الأخرى، يقدمون أفلامًا من بطولتهم أو بالمشاركة مع النجوم الشباب، وسط كل هذا الزخم الفنى والصراع الدائر بين أجيال مختلفة من النجوم والأبطال ظهر محمود عبد العزيز على الساحة الفنية متأخرًا بعض الشىء باحثًا عن فرصة لإثبات موهبته فى مهمة قد تبدو شبه مستحيلة فماذا فعل ؟
3- طائر الليل الحزين ..
كانت الأفلام الرومانسية الجادة والأفلام الرومانسية ذات الصبغة الكوميدية، هى الشكل السائد والأكثر رواجًا لأفلام السبعينات .. بطل وسيم وبطلة جميلة حولهم مجموعة من الكوميديانات مثل سمير غانم وسعيد صالح ويونس شلبى وإبراهيم سعفان، لتدور قصة حب تقليدية ومعتادة غالبًا ما تنتهى بالنهاية السعيدة وسط تهريج وقفشات نجوم الكوميديا.
بعد ظهور أول لمحمود عبد العزيز بدور صغير فى فيلم (غابة من السيقان) عام 1974 أمام نجم المرحلة محمود ياسين ، ودور أكبر فى نفس العام فى فيلم (الحفيد) خدمته الظروف ليقوم بدور البطولة عام 75 فى فيلم (حتى آخر العمر) أمام نجوى إبراهيم وعمر خورشيد، ليُصنف بعدها كنحم وسيم وتتوالى أدواره الرومانسية، ورغم ذلك كانت هناك محاولات للتمرد على هذه النوعية من الأفلام أبرزها فى الفيلم المهم (طائر الليل الحزين) عام 1977 أمام العملاقين محمود مرسى وعادل أدهم، فى أول عمل سينمائى للكاتب الكبير وحيد حامد، وفى فيلم (الشياطين) فى نفس العام للمخرج حسام الدين مصطفى ورغم مساحة الدور الصغيرة نسبيًا، قدم ببراعة شخصية (فكرى الشواف) الشاب العدمى الراغب فى الانتحار والمُنضم لجماعة سرية فى الأربعينات تنفذ عمليات اغتيال لبعض السياسيين، تبعه ظهور متتالى مع السندريلا سعاد حسنى فى فيلمى (شفيقة ومتولى) و (المتوحشة) قبل أن يختم هذه الحقبة بدور متميز أمام محمود ياسين – مثلما كانت البداية أمامه – ونبيلة عبيد فى فيلم (ولا يزال التحقيق مستمرًا) ..
4- التمانينات .. سنوات التوهُج والإبداع
مع بداية التمانينات أصبح الشكل السائد لأفلام السبعينات الرومانسية هو الاستثناء وليس القاعدة، وخصوصًا مع ظهور جيل جديد من المخرجين العظماء أمثال محمد خان وداود عبد السيد وعاطف الطيب وخيرى بشارة وهو الجيل الذى أُطلق عليه (مخرجى الواقعية الجديدة) أصبح المعيار الآن هو حجم الموهبة وليس الوسامة فباتت الفرصة سانحة أمام محمود عبد العزيز لكى يثبت أنه فنان موهوب بالأساس وليس أى شيئ آخر.
كانت البداية من دوره فى الفيلم الشهير (العار) أمام نور الشريف وحسين فهمى، ثم يظهر مع نادية الجندى ومحمود ياسين فى (وكالة البلح) ويقدم دورًا جرىئًا فى (درب الهوى) ودورًا مختلفًا تمامًا فى (العذراء والشعر الأبيض) ومع يحيى الفخرانى فى فيلم محمد خان الرائع (نصف أرنب) دورًا عظيمًا – غير مشهور للاسف – لشاب مختل نفسيًا فى فيلم (فقراء لا يدخلون الجنة) أصبح هناك تنوعًا كبيرًا فى نوعية الأدوار التى يلعبها ويؤديها جميعا ببراعة مُلفتة، وكأنه كان متعطشًا لهذه اللحظة التى يخرج فيها من المساحة الضيقة التى وضعوه فيها المخرجون إلى أفق أرحب ليبدع من خلاله ويظهر قدراته الحقيقية كممثل استثنائى عظيم جاءت الكرة إلى ملعبه أخيرًا ليبرهن على ذلك ..
5- مزاجنجى الذى لا ينسى أبدًا ..
هذا التنوع يوضح بشدة عندما تتأمل نوعية الأفلام التى قدمها فى عام 1985 تحديدًا فقد قدم (إعدام ميت) وهو فيلم عن عالم المخابرات والجاسوسية، وأحد أفلامه الشهيرة (الشقة من حق الزوجة) والتى تناقش قضية اجتماعية مهمة..
ثم يظهر مع نور الشريف فى فيلم داود عبد السيد الأول (الصعاليك) ويقوم بدور التاجر الجشع أبو الفتوح والذى يسعى إلى لقب (عمدة القرية) بأى ثمن فى فيلم (الطوفان) ونراه أيضا فى فيلم إيناس الدغيدى الأول (عفوًا أيها القانون) . ويقوم بدور سيف الحديدى المذيع الشهير الذى تطارده المعجبات فى فيلم (المجنونة) مع إسعاد يونس .. ثم يقدم أحد أدواره الخالدة فى الفيلم الاستثنائى (الكيف) هذا الفيلم الذى ما زال يحقق نجاحًا حتى اليوم ويحظى بشعبية كبيرة بين أجيال لم تكن ولدت يوم عرضه الأول ولكنها تحفظ إفيهاته عن ظهر قلب.
هذه هى قيمة الفن وقيمة ما قدمه محمود عبد العزيز الذى أبدع وتوهج فى سنوات التمانينات وترك بصمته واضحةً كأحد أهم نجوم هذه الحقبة المدهشة والتى تميزت بالثراء الفنى قبل أن تبدأ سنوات التسعينات ونسمع عن (أزمة صناعة السينما ) ..
6- أسطورة رأفت الهجان ..
لو كانت هناك إحصائيات دقيقة عن نسب مشاهدة الأعمال الدرامية فى الوطن العربى كله على مر التاريخ فربما جاء مسلسل (رأفت الهجان ) فى المركز الأول، فهذا المسلسل بأجزاءه الثلاثة والتى بدأت فى عام 1987 حقق نجاحًا أسطوريًا لا مثيل له. هو عمل أقرب إلى الكمال يقف وراءه عظماء مثل الكاتب صالح مرسى والمخرج يحيى العلمى والمبدع عمار الشريعى وموسيقاه المدهشة، ثم أداء مذهل ومتقن ورائع من كل نجوم العمل بلا استثناء.
أما محمود عبد العزيز فقد أثبت للجميع أنه هو رأفت الهجان ولا أحد سواه، فمن الصعب أن نطلق على ما قدمه فى هذا المسلسل وصف تمثيل أو تجسيد أو أداء لشخصية، بل نستطيع أن نسميها مجازًا بعملية خلق خلاقة لشخصية الهجان والتوحد معها بشكل لا يصدق، والدليل أن محمود عبد العزيز ربما لم يتلقَ إشادة واضحة بهذا الدور فالجميع كان يشيد برأفت الهجان وكأنه شخصًا آخرًا، شخصًا جاء به محمود عبدالعزيز من العدم ولو كان ممثلًا غيره لظل أسيرًا لعقدة نجاحه فى رأفت الهجان ولوجد صعوبةً كبيرةً فى تقديم نجاح مماثل وبنفس القوة، ولكن السحر الحقيقى لم يكن قد بدء بعد، وكان الساحر ما زال فى جبعته الكثير والكثير الذى يدهشنا به ..
7- من رأفت الهجان إلى رأفت الميهى ..
بعد النجاحات المتتالية سينمائيًا والنجاح الخرافى لمسلسل الهجان، كان من الطبيعى أن يفكر محمود عبد العزيز فى استغلال ذلك من أجل المنافسة على الإيرادات بتقديم أفلام تجارية بحتة تجعله يقفز إلى المقدمة التى يحتلها عادل إمام ونادية الجندى ويناوشهم أحيانًا أحمد زكى، ولكن على ما يبدو كانت الرغبة فى التنوع والشغف الفنى بداخله أكبر من أى حسابات، ففى نفس عام الهجان كان محمود عبد العزيز يدشن أول أفلام ثلاثيته المجنونة مع المخرج الكبير رأفت الميهى بفيلم (السادة الرجال) وتبعه بفيلمى (سمك لبن تمر هندى) و (سيداتى آنساتى) جموح فنى ورغبة جريئة فى تجربة وتقديم ما هو مختلف، صفات شكلت نقطة تلاقى ما بين الميهى ومحمود عبد العزيز فى شراكة فنية قوامها الخيال والفانتازيا السينمائية.
صنعوا أفلامًا لتبقى وتشكل علامة فى تاريخ السينما المصرية، ولكنها نجحت أيضا جماهيريًا وقت عرضها لتؤكد أن شباك التذاكر قد ينصف الفن الجيد فى بعض الأحيان، وأن الجمهور – بعكس المقولة الشائعة – مش دايمًا عاوز كدة ..
8- تسعينات الكيت كات ..
لو لم يقدم محمود عبد العزيز سوى فيلم (الكيت كات) فقط لكان كافيًا جدًا أن يخلد اسمه كأحد أفضل الممثلين فى تاريخ السينما المصرية، يستحق محمود عبد العزيز جائزة عن كل مشهد أداه فى هذا الفيلم فمن الظلم أن يأخذ جائزة واحدة فقط عن الدور كله، لا أعلم من أين جاء إبراهيم أصلان وداود عبد السيد بكل هذه البساطة والعمق والشجن والبهجة؟ كيف صنعوا من تفاصيل الحياة العادية والبسيطة هذه الملحمة الفنية الخالدة.
أتذكر مقولة العم خيرى شلبى (الخيال لا يعنى تأليف شىء من العدم أو تخيل عالم بأكمله من الفراغ، إنما الخيال هو عمق الإحساس بالتجربة المعيشية سواء عاشها وعايشها المرء بنفسه أو عن كثب) هنا تكمن الإجابة، فعمق إحساس إبراهيم أصلان وداود عبد السيد بتجربة الحياة هو ما أنتج هذا الخيال المدهش من رحم الواقع ليؤديه ببراعة منقطعة النظير محمود عبد العزيز أو (الشيخ حسنى) الذى هو نفسه صورة لرفض الواقع والتمرد عليه، يواجه الأحزان بالضحك والحياة بالسخرية ويرفض الإعتراف بأنه أعمى حتى يستطيع مواصلة الحياة التى يعيشها ببصيرة أغنته عن البصر وجعلته يرى ما فيها من جمال لا يراه المبصرون.
اى كلمات مديح أو إطراء ستبدو قليلة وغير منصفة لمحمود عبد العزيز على ما قدمه فى فيلم الكيت كات الذى سيبقى خالدًا وشاهدًا على أننا كنا نملك يومًا ما فنانًا بهذا الحجم وهذه الموهبة، رحل وترك لنا فنًا وإبداعًا لا يوجد له مثيل ..
9- نظرية البهجة وعبد الملك زرزور ..
بدخول الألفية الجديدة وظهور جيل سينمائى جديد قل للأسف معدل أفلام محمود عبد العزيز، ولكنه رغم ذلك استطاع أن يقدم توهجات أخيرة لموهبته الفذة فى أفلام مثل (سوق المتعة) و (الساحر) والأخير كان بمثابة إطلالة أخيرة للمخرج الرائع رضوان الكاشف الذى قدم من خلاله نظرية البهجة عبر ملك البهجة الأول فى فيلم ملىء بالصدق والحياة.
ثم جاء الفيلم المُفتعل والمُخيب للآمال (ليلة البيبى دول) ولكن محمود عبد العزيز أبى أن تكون هذه هى النهاية فقدم عرضه السينمائى الأخير بما يليق بموهبته، بدوره الممتع عبد الملك زرزور فى فيلم (إبراهيم الأبيض) لتبقى البداية والنهاية وما بينهما شاهدين على هذا المشوار الفنى الحافل بالعطاء والتميز والحب، أحب الفن وأخلص له فأحبه الناس وحزنوا لفراقه وكأنه واحدًا منهم وهو بالفعل كذلك.
رحم الله محمود عبد العزيز، فقد أثبت صحة نظرية أينشتاين بأن البهجة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم ..