لم يشهد 2011 ثورة يناير فقط، إذ كانت هناك ثورة أخرى في المناطق البعيدة خارج دائرة الأضواء في منطقة تنتمي إلى عالم الأساطير، المسمى “أقاليم ومحافظات مصر”، التي لا يمتد إليها اهتمام الإعلام ولا تشير إليها الفضائيات والصحف والمواقع الإليكترونية بالبنان إلا في الكوارث والملمات.
كانت ثورة، مارس في قرية شمَّا بمركز أشمون في محافظة المنوفية الظلم والقمع والطغيان والفساد والجريمة، لكنها لم تكن ضد مبارك أو نظامه، أو المجلس العسكري ودباباته، أو الإخوان وميليشياتهم الصوتية والمسلحة، بل كانت ضد عائلة تحترف الإجرام بكل أشكاله من تجارة المخدرات إلى السلاح والآثار والقتل مقابل أجر، علاوة على إثارة الفتن، وتقفيل صناديق الانتخابات.
عائلة “أبو حريرة” لم تكن عائلة بالمعنى الحرفي للكلمة، بل كانت تشكيلا إجراميا منظما يتكون من أفراد أسرة واحدة، أو كما يطلقون عليها Family Company، يقومون بأنشطة إجرامية منظمة.
وكان للنشاط الإجرامي أكثر من وجه، إذ امتد إلى عالم السياسة والانتخابات وما يحيط بها من “سبوبات” لإرهاب الناس من التصويت لمرشح بعينه، أو دعم مرشح بعينه بينما كان الحزب الوطني المنحل في أوج سطوته.
اكتسبت هذه العائلة سطوة على زمام أشمون، ونما نفوذها ليمتد إلى المحافظة وتجاوز ذلك إلى صيت ذائع في جميع محافظات الدلتا. وكان لتربيتها في أحضان النظام فضلا في قيام علاقة وطيدة بينها وبين الداخلية، إذ كان هذا النوع من العصابات من أعمدة التنسيق التي يستغلها أمن مبارك لإلحاق المرشحين في مجلسي الشعب والشورى بمقاعدهم تحت القبة البرلمانية بسهولة.
وبعد اندلاع ثورة يناير، فقد هؤلاء المجرمون سطوتهم وعزتهم وتحكمهم في خلق الله وقدراتهم على إرهاب الأهالي في شمَّا. كما فقد “الحرايرة”، كما يطلق البعض على عائلة “أبو حريرة”، البوصلة التي توجههم، فارتبكت الأعصاب، وارتعشت الأيدي، وذهبت العقول، وأصبحوا يمارسون إجرامهم على رؤوس الأشهاد.
كانوا يعملون باستراتيجية الانتشار، إذ اتخذوا من أحد مداخل القرية معقلا ظاهره بيع الفاكهة ومقهى صغير و”كشك” سجائر، وباطنه مركزا لعمليات تجارة في المخدرات والسلاح وتوزيع تلك الممنوعات بسهولة ويسر بين أقفاص الفاكهة التي كان يراها الجميع في رحلاتها ذهابا وإيابا.
وكان من العجيب أن تترك الدولة هؤلاء المجرمين يحتلون أراض تابعة للدولة ليقيموا فيها دولتهم ويعششون في القرية، ويعيثون فيها فسادا، إضافة إلى تملكهم عدد من المنازل داخل البلد.
ولم يكد يمر شهر من سقوط مبارك، حتى أدرك شباب شمَّا أنه لابد من اقتلاع هذا الورم الخبيث المدعو “عصابة أبو حريرة” من قريتهم بعد حادثة قتل سائق نقل ارتكبها هؤلاء بعد خلاف معه على تفاصيل “مشاوير” كان يقوم بها لصالحهم.
قُتل السائق في وألقيت جثته على قارعة الطريق، ما أثار حفيظة شباب القرية على رأسهم محمد عيسى العليمي، الذي تحول إلى بطل شعبي بين أبناء شمَّا بعد وقوفه برجوله وشجاعة أمام هؤلاء القتلة.
جمع محمد وخيرة شباب البلد الناس على قلب رجل واحد وقالوا كلمة واحدة جرت على ألسنتهم في نفس الوقت ونفس المكان أثناء جنازة السائق المقتول.
وبعد الانتهاء من الدفن، توجهوا لمطالبة عصابة “أبو حريرة” بالرحيل عن البلد وتسليم القاتل للعدالة، ما أثار جنون تلك العائلة التي تعودت على أن تأمر، لا أن تتلقى الأوامر.
وانهارت أعصاب كل القتلة الذين لم يعد لديهم حصانة من الداخلية ولن يقيهم أحد غضبة الناس، وبدلا من الانصياع لإرادة أهل القرية، اعتلوا أسطح المنازل وأخذوا يطلقون أعيرة النار عشوائيا من أسلحة آلية وعادية على المارة والمتجمهرين أمام منازلهم وحولها، كانت منازلهم في مكان واحد تكون معسكرا إجراميا متكاملا به جميع أنواع السلاح والمخدرات.
وكانت حصيلة القتلى من أهالي البلد حوالي خمسة في ذلك اليوم، إضافة إلى السائق المقتول، لكن القتلة تمكنوا من الهرب وحكم عليهم غيابيا بالسجن المؤبد، وأعيدت المحاكمة ليحصلوا على البراءة تماما مثلما حصل عليها المخلوع في قضية قتل المتظاهرين.
تزامن مع المحاكمة جهود من شباب القرية الذين أرادوا ألا يتركوا أثرا لهذه المرحلة المظلمة من تاريخ بلدهم الصغير وأن يتخلصوا للأبد من عائلة “أبو حريرة”، يقودهم في ذلك محمد عيسى العليمي، الذي يجب أن تتذكروا اسمه جيدا.
ونسق العليمي بنجاح لجلسة حكم عرفية بالتعاون من أجهزة الأمن قليلة الحيلة، التي لم تتمكن أن تكون طرفا في صراع أهل القرية مع المجرمين، وبحضور الشخصيات العامة ورجال أكبر العائلات في القرية وعدد من القرى المجاورة.
وجاء الحكم على عائلة أبو حريرة بحضور غير المطلوبين منهم أمنيا بالتهجير من القرية بأنشطتهم غير الشرعية وإجرامهم وأسلحتهم، وبالفعل اتفق الجميع على ذلك وظل القتلة هاربون دون أن يظهر منهم أحد لسنوات بعد هذه الجلسة العرفية.
لكنهم كانوا يراقبون القرية من بعيد، ويرسلون تهديدات لمحمد عيسى وأقرانه من الشباب بالقتل وأنهم سوف يعودون للتنكيل بأهل القرية جميعا تماما مثلما كان يفعل “الخُط” وغيره من “مشايخ المنصر” و”مطاريد الجبل” في الأعمال الدرامية المصرية.
تزامنا مع ذلك وعلى مدار سنوات عدة، بدأ العليمي عدة مشروعات في القرية تستهدف توفير الخدمات غير الموجودة ونجح في مشروع “الجنيه” الذي جمعه من كل فرد في القرية، وبالفعل نجح المشروع وتم شراء قطعتي أرض لبناء مدرستين.
كما بدأ الرجل “مشروع الألف نخلة” في قريته وكون علاقات طيبة بالمحافظ وأجهزة المحافظة ليكون أحد أبرز القيادات الشعبية في القرية، وأصبح يقضي أكثر من نصف وقته لخدمة أهل شمَّا الذين كان يتحدث باسمهم ويرعى مصالحهم أكثر من أعضاء البرلمان الذين لم يسمع لهم أحد صوتا مطالبا بتلك المصالح.
أتدرون أين محمد عيسى العليمي الآن؟
انتقل إلى جوار الرحمن بعد أن أرداه القتلة من عصابة “أبو حريرة” قتيلا بوابل من الرصاص منذ أيام قليلة بعد دقائق من مباراة المنتخب بعد أن نصبوا له فخا بالقرب من أحد مداخل القرية.
ألا تذكركم ثورة مارس 2011 وما حدث لمحمد العليمي بشيء؟ ألا تذكركم بتجربة خاضها أحدكم ودفع هو وحده الثمن مع أن الجميع حققوا المصالح والمكاسب من وراء جهوده؟ ألا يذكركم بحق ضائع وسيظل ضائعا حتى يسعى وراءه المسؤول الحقيقي عنه؟ ألا يذكركم بخطر من تضعون حياتكم بين أيديهم وتنامون في بيوتكم، واثقين أنهم يسهرون على حمايتكم؟
شخصيا، أراها أكبر من مقتل شخص أو شاب أو حتى بظل شعبي، إن ما حدث مقتل ثورة على الفساد والظلم والطغيان.
إجهاض شاركت فيه الدولة والأمن والناس. إجهاض لأحلام وآمال أجيال وثقت في غد أفضل.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزت الداخلية كل الحدود وأهانت واعتقلت كل من تجرأ وخرج للتعبير عن غضبه والمطالبة بقاتل “فارس أحلام” القرية الصغيرة الذي كان يحاول أن يضع بلدته الصغيرة على الخريطة ليعيش أبناؤها في كرامة وكفاية.
وكان الإجراء الذي لا يعرف الأمن غيره هو القبض على العشرات من أهل القرية بتهم قانون التظاهر وتكدير الأمن والسلم العام وقطع الطرق وتعطيل السكك الحديد.
فهل ينجو هؤلاء أم يكون “موت وخراب ديار” حال صدور أحكام بسجن هؤلاء لسنوات بتهم باطلة دستوريا وحرمانهم من ستر أسرهم بعملهم وأجرهم المتواضع.
ادعم هؤلاء على هاشتاج #حق_عيسى_شما، لعلنا نتمكن من إنقاذ ثورة مارس ومن بعدها الأخت الكبرى ثورة يناير.