نقلًا عن “المصري اليوم”
داخل المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى عُرض الفيلم الفرنسى (استراحة قصيرة) للمخرجتين الشقيقتين (كولين) دولفين ومولين، وهما حالة خاصة بين الأشقاء فى السينما، حيث تعودنا أن الأخوين منذ مخترعى السينما (لوميير) فى فرنسا لويس وأوجست، مرورا بـ(تافايانى) إيطاليا، و(كوهين) أمريكا، وداردين (بلجيكا)، وغيرهم يخرجان كل أفلامهما معا، بينما الشقيقتان الفرنسيتان تعملان فقط أحيانا معا.
الفيلم يتناول حياة أفراد من القوات المسلحة الفرنسية يقضون إجازة فى قبرص بعد نهاية مشاركتهم فى حرب أفغانستان، حيث يتم تأهيلهم للحياة من خلال الإقامة فى فندق (خمس نجوم)، ويقدم الفيلم كل التشوهات النفسية والجسدية التى يعيشها الجنود، والتى تصل إلى حدود الشروع فى الاغتصاب، مؤسسة لها بالطبع حساسيتها فى كل دول العالم، ورغم ذلك لم يُصدر قانون يحظر الاقتراب من الشخصيات التى تنتمى إليها، ولم يقل أحد إنه الأمن القومى ويجب الالتزام بالخط الأحمر، فى أفلامنا لا يمكن أن تُقدم زيا عسكريا ترتديه إحدى الشخصيات دون الحصول على موافقة مسبقة من القوات المسلحة، ناهيك عن أن التعرض اجتماعيا لشخصية ضابط الجيش أو من ينتمى من بعيد أو قريب لتلك المؤسسة السيادية فى عمل درامى هو المستحيل الرابع بعد (الغول والعنقاء والصديق الوفى).
الفيلم الفرنسى يقدم أساسا الإنسان، امرأة أو رجلا، بعيدا عن الزى الذى يرتديه، أعلم أن تلك القضية مجرد طرحها للنقاش يثير حساسية، لأننا فى حقيقة الأمر لا نتعامل بمرونة مع السلبيات فى حياتنا، إلا ويتردد صوت جهورى يعلنها صريحة مجلجلة (سمعة مصر)، لم نسمع أن هناك فى فرنسا من تساءل عن سُمعة الجيش الفرنسى بعد عرض هذا الفيلم فى شهر مايو الماضى فى قسم (نظرة ما) بمهرجان (كان).
لدينا فرط حساسية يصل إلى تخوم المرض بأن أى انتقاد لأى من مظاهر الحياة حتى لو كان تقديم عشوائيات يمس سمعة مصر، الرئيس السيسى قال إن أهل العشوائيات ليسوا كلهم كذلك، وهو قول صحيح تماما، لدينا زملاء صحفيون وهناك دكاترة ومهندسون ينتمون إلى العشوائيات، إلا أن الدراما من حقها أن تتوقف أمام نماذج سلبية، وبالمناسبة فيلم (يوم للستات)، والذى طاله هذا الاتهام مؤخرا، لا يتناول منطقة عشوائية، ولكنه يتعرض لحى فقير، والكثير من الزملاء تساءلوا مثلا: كيف أن إلهام شاهين، بطلة الفيلم، نراها فى لحظات تدخل باب الشقة التى ينام فيها حبيبها السابق محمود حميدة، وتتحسس يدها خده وهو نائم، نعم الباب مفتوح فى عدد من تلك البيوت، لأن ضيق المساحة يغتال الخصوصية التى هى واحدة من ضرورات الإنسان.
أكتب هذه الكلمة قبل أن أرى (البر التانى) لعلى إدريس، وهو الفيلم الثانى الذى يمثل مصر رسميا بالمهرجان، الفيلم يتناول هجرة الشباب وتعرضهم للموت، وهى (تيمة) صارت شائعة، خاصة فى سينما المغرب العربى، ولا أستبعد أن يطول الفيلم هذا الاتهام سابق الإعداد والتجهيز والإساءة لسمعة مصر.
مهرجان القاهرة موعود بها، المخرج خالد الحجر ناله مثلها فى فيلم (الشوق) 2010، أحداثه تجرى داخل الحارة لنرى كيف يتواطأ الفقر والمرض والموت والجنس والاستغلال والإحباط الذى يعيشه أهل الحارة ليغتال آدميتهم، وفى مهرجان (دبى) فى نفس العام، كان يشارك أيضاً فى المسابقة الرسمية للمهرجان فيلم (678) للمخرج محمد دياب، أصاب الفيلم اتهام مماثل، وطالب أحد المحامين من الباحثين عن الشهرة بمصادرته ومنعه من الخروج من مصر إلى دبى، رغم أنه لم يكن قد شاهده أحد، ولكنه فقط سمع أنه يتناول ظاهرة التحرش الجنسى، فقال كيف نعرض غسلينا القذر خارج حدودنا؟!!
فى أغلب دول العالم الثالث كثيراً ما يصبح مطلوباً من الأعمال الفنية أن تتحول إلى (كارت بوستال) لتجميل وجه البلد، والقضية عربية وليست فقط مصرية، مرزاق علواش، الجزائرى، فى فيلمه (مدام كوراج)، متهم فى الجزائر بالإساءة لسمعتها، لأنه يقدم تعاطى الشباب الجزائرى للمخدرات، أتذكر فيلم المخرج المغربى نبيل عيوش (الزين اللى فيك)، الذى عُرض قبل عامين فى قسم أسبوعى المخرجين بمهرجان (كان)، طالبوا فى المغرب بسحب الجنسية من المخرج، لأنه يقدم فى فيلمه عاهرات، وعيوش موعود فى الحقيقة بهذا الاتهام عربيا، حتى إننى شاهدت نجمنا محمود ياسين فى مهرجان (دبى) يعلو صوته بالغضب، قبل 9 سنوات، يتهمه بأنه يتعمد الإساءة لمصر، لأنه يتناول حياة راقصة تعيش فى مصر، والغريب أن فيلم (الوعد)، إخراج محمد ياسين، والذى قُدم فى نفس المرحلة الزمنية، وشارك فى بطولته محمود ياسين، احتجوا عليه فى المغرب، لأن جزءا من أحداثه يجرى فى (الدار البيضاء)، يتناول صراع العصابات وقالوا إنه يسىء لسمعة المغرب.
مصر وسمعتها اتهام لم يسلم منه مخرجو أفلام الثمانينيات فى السينما المصرية، أمثال عاطف الطيب وخيرى بشارة وداوود عبدالسيد ومحمد خان، حيث قال المخرج حسام الدين مصطفى واصفاً أفلامهم بأنهم يقدمون (أفلام الصراصير) لأنهم يتعرضون أحيانا للأحياء الفقيرة، القضية تعود إلى مطلع الخمسينيات، المخرج «صلاح أبوسيف» ناله الكثير بسبب أفلامه الواقعية، بينما أكثر مخرج ضربته هذه الاتهامات فى مقتل هو «يوسف شاهين» بعد أن عرض له عام 1991 فيلمه (القاهرة منورة بأهلها) فى قسم (أسبوعى المخرجين) بمهرجان (كان)، الفيلم يمزج بين الرؤية الدرامية والتسجيلية، تناول مشاكل الشباب وطموحاتهم التى تصطدم بفساد الدولة، لم يكتف البعض بهذا القدر من الهجوم على يوسف شاهين، حيث تبنت إحدى الجرائد الكبرى المطالبة بسحب جواز سفره المصرى واعتبروه مجرد «خواجة» يعيش بيننا. أتذكر أن المخرجة اللبنانية جوسلين صعب قدمت فيلم (دنيا) قبل نحو 10 سنوات، وعُرض رسمياً فى مهرجان القاهرة، وتناول فى جانب منه ختان البنات.. أحداث الفيلم اللبنانى تجرى فى حارة مصرية، ولهذا ارتفع الصوت الذى يقول إن المخرجة تسىء إلى مصر وسمعتها، وعليها أن تكتفى بعرض ما يجرى فى شوارع وحوارى لبنان!!
كأنهم لا يريدون من صناع الأفلام سوى أن يعبئوا أشرطة تتغزل فى محاسن البلد على طريقة (الكارت بوستال)، سقطت الأسوار والحواجز ولا يمكن حجب الحقيقة، لكننا لانزال نعتقد أننا نرتدى طاقية الإخفاء نشاهد الآخرين ولا يشاهدنا أحد!!.