نقلا عن المصري اليوم
«الجنيه غلب الكارنيه».. إذا أردت نموذجا صارخا على الهوان الذي صار فيه ((الكارنيه)) فلن تجد أفضل من فيلم ((البر التاني))، هكذا ندهته النداهة.. أقصد رجل الأعمال محمد علي، قالت له أنت تستطيع فى أشهر قلائل أن تُصبح نجما مشهورا، الفلوس تصنع المعجزات، اكتشفنا أنه قدم من قبل فيلم ((المعدية)) الذي ينتمي لأفلام الميزانيات المحدودة، ولهذا لم يلمحه أحد، فقرر أن يدفع أكثر ليحصد كما أوهمه نجاحا جماهيريا أكبر.
حصل المليونير بالجنيه على كارنيه نقابة الممثلين ليصبح ممثلا، وعلى كارنيه غرفة صناعة السينما ليصبح منتجا، وكارنيه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ليشارك بفيلمه في المسابقة الدولية ممثلا للسينما المصرية، وقبلها وبعدها استحوذ على عدد من الكارنيهات مثل أن يصعد على السجادة الحمراء، وأن تتابعه عشرات من الكاميرات، فوتوغرافية وتلفزيونية، ويلاحقه عدد من ((البودى جارد))، وأن يقف متصدرا ندوة الفيلم في المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية، وأن يوصف فيلمه قبل العرض بأن المهرجان يقدمه كعرض عالمي أول، وكأن المهرجانات الكبرى في العالم أجمع كانت تتسابق على “البر التاني” ويبدو أن هناك من أوعز إليه في الندوة التي أعقبت عرض الفيلم أن ((باس وورد)) قلوب الناس أن يحشر بين كل كلمة وأخرى اسم مصر، كان السؤال الأول: من انت؟ أنا مصرى، كم كلفك إنتاج الفيلم؟ تجاوز 25 مليونا قبل تعويم الجنيه، وكل شىء يهون عشان مصر، لماذا كل هذه الأموال؟ يا حبيبتى يا مصر، وينتهى الفاصل بغناء على طريقة عفاف راضي ((مصر هي أمي، نيلها هو دمي، حتى لوي قمحي لون نيلك يا مصر)).
استطاع المليونير أن يقنع المخرج علي إدريس بمواهبه الاستثنائية؟ إدريس حقق أفلاما عديدة، أشهرها وأهمها ((عريس من جهة أمنية)) و((مرجان أحمد مرجان)) و((دادة دودي))، كان إدريس مترددا بل متردد جدا، كما أشار في الندوة، ونصح المنتج: “بلاش الفيلم ده يا محمد؟ أبدا ح أعمله.. ده ح يكلفك كتير يا محمد.. مش مهم أنا جاهز من مليون لـ30، طيب يا محمد خليه بعدين؟ أبدا عايزه دلوقتي، طيب نعملك فيلم محندق على القد كده أوضتين وصالة وعفشة ميه وكنبه وقلة وكوباية.. أبدا أريد ((البر التاني))، يا محمد ح تخسر الفلوس يا محمد.. ارجع يا محمد.. صعبان علىّ يا محمد.. يا محمد… يا محمد.. وينتهي هذا الفاصل، حيث نجد محمد يردد على طريقة نجاح سلام ((يا أغلى اسم في الوجود يا مصر))، وبالتأكيد كان صوته يمتلئ بالدموع الساخنة، وبادله علي إدريس قليلا من الدموع، بينما كانت يداه تتحسس الفلوس التي حصل عليها مقابل إخراج الفيلم، نعم كل شيء يهون من أجل مصر، ولا بأس أن يردد إدريس مع ياسمين الخيام في النهاية أغنية تعبر عن حالة الفرحة الغامرة التي انتابته ((المصريين أهمه.. حيوية وعزم وهِمه)) هكذا حقا يكون العزم وتتأكد الهمة.
هل تتذكرون فريد شوقي فى دور البلطجي حسن أبو الروس الذي أراد أن يسترزق فيصبح مطربا يحيي الأفراح الشعبية في فيلم صلاح أبوسيف الأشهر ((بداية ونهاية))، كان يغني ((والله زمان.. زمان والله)) والمعازيم يضجون غضبا بسبب رداءة صوته، لكنه يُكمل بقوة العضلات، وعندما يعترض واحد من المعازيم يضربه على رأسه، وكرسي في الكلوب، ويبوظ الفرح.
لم ولن يصبح أبو الروس مطربا، ولن يصبح محمد علي ممثلا، ولا أتصور سوى أنه عندما يحين عرض الفيلم تجاريا، سيصبح العثور على متفرج واحدةً من المعجزات، خاصة أن من يتصدر الأفيش هو فقط منفردا وخلفه البحر، وفى أفيشات قليلة جدا ستلمح من الكبار عبدالعزيز مخيون وعفاف شعيب وحنان سليمان، واختيارهم ليس عشوائيا بالطبع، فهم لن يعترضوا على مساحة الدور ولن يتساءلوا عن علاقة البطل بالتمثيل، ولا حتى عن علاقتهم بالفيلم، وستجد على الميمنة والميسرة وجوها جديدة، مثل محمد مهران وسليم سليمان ولمياء، وحتى يكتسب الفيلم شرعية التصوير والعرض كان ينبغى توقيع بيومي فؤاد في مشاهد أربعة.
السيناريو الذي كتبته زينب عزيز يبدأ بمشاهد تمهيدية، لنرى مشاكل هؤلاء الشباب وطموحهم المجهض في تحقيق حياة كريمة، ولكنه على استحياء شديد لا يريد أن يُغضب الدولة، فهو لا يدين أبدا النظام الذي دفع أبناءه للهجرة – وكانت هذه اللقطات هي الأسوأ، وكأننا بصدد مسلسل تليفزيوني يريد أن يملأ الأحداث بمساحة تستهلك زمنا، ونبدأ في إقامة علاقة عبر الشاشة للبطل الذي يسيطر على الحدث، تفاصيل مملة مثل علاقته بابنة خالته، الشخصية الوحيدة التى حملت شيئا من الطزاجة دراميا، هي فقط حنان سليمان في علاقتها مع ابنها الوحيد محمد مهران، كان ينبغي أن تتعدد الشخصيات التي نراها على المركب لنعرف من هم ولماذا، ولكن بالطبع و((لا الهوا))، لأن هذا يعني أن البطل لن يأخذ المساحة كلها، أليس هو صاحب القعدة، الذى ((شهيص)) الليلة.
رحلة هؤلاء عبر المركب شاهدتها فى العديد من الأفلام المقدمة بإبداع وألق، خاصة فى المغرب العربى مثل الجزائرى ((حراقة)) لمرزاق علواش، والعالمية وآخرها الإيطالى ((نار فى البحر)) للمخرج جيانفرانكوروسى الحائز جائزة الدب الذهبى فى مهرجان برلين 2016، وسبق أن تناولته عبر هذه الصفحات فى فبراير الماضى.
((البر التانى)) لا يملك خيالا، ولم يستطع أن يحقق تماهياً مع المتلقى تجاه هؤلاء الشباب، وتبقى جثث الضحايا على الشاطئ لا تثير أى شجن، فنحن لم نعرف من هؤلاء، فقط شاهدناهم مثلا وهم يؤدون الصلاة، وبين كل هؤلاء لم يشر إلى مجرد تواجد مسيحى يشارك في الوطن وأيضا في الهروب من الوطن.
الإنتاج استعان بالعديد من العناصر الإسبانية في التصوير والتنفيذ، ورغم ذلك كان من الممكن، توفيرا للنفقات، تقديم مشاهد الغرق كلها في بحر الإسكندرية لأن اللقطة الوحيدة التي ترى فيها شاطئ المفروض أنها إيطاليا، من الممكن تقديمها ببساطة فى مصر بدون تكلفة مالية، شاهدنا فى الفيلم الشرطى الإيطالى وهو يحصل على رشوة لعبور المركب، ولا أتصور رغم توتر العلاقات سياسيا بين مصر وإيطاليا أن هناك غضبا أو رد فعل من السفارة، مساحة الحرية هناك تسمح ببساطة بتقديم شرطي مرتش، بالطبع لو حدث العكس لوجدنا الغضب الرسمي والإعلامي والشعبي في مصر هو الذي يسيطر على المشهد، وكل برامج ((التوك شو)) تبدأ ملحمة الغضب والمؤامرة الكونية على مصر.
قضية الهجرة غير الشرعية ساخنة وآنية، وضحايا ((رشيد )) لا تزال دماؤهم تتدفق فى مشاعرنا ويستحقون عملا فنيا يرصد ويحلل ويوثق ويشجينا فنيا، بالتأكيد يقف على البر الآخر من ((البر التانى)) !
منتج وبطل الفيلم محمد على يعتقد أنه قدم «تيتانك»، وأن الجمهور سيراه النسخة المصرية المنقحة من ليوناردو دى كابريو، كاتب هذه السطور فقط هو الذى شاهد ((نورماندى 2)) وحسن أبوالروس!