“الفلوس مش كل حاجة”، عبارة يمكن أن تستخدمها فقط في المواقف العاطفية والإنسانية، يمكن أن يقولها أخ لشقيقه، زوجة لزوجها عند مقابلة أي محنة سببها أزمة مادية، لكن لا يمكن أن تخرج من هذه الأزمة إلا بعد توفير النقص المالي اللازم لذلك.
الغريب أن رجال أعمال ومستثمرين يلعبون في سوق الميديا ويؤمنون بالقاعدة العاطفية نفسها، أو على الأقل يجعلونها تنجح حتى لو تكلموا بعكس ذلك، سيقول البعض أنه من الأساس يدخل رجال الأعمال سوق الميديا ليس لتحقيق مكاسب مباشرة من الشاشات والصحف والمحطات الإذاعية وإنما من أجل حماية استثماراتهم في المجالات الأخرى والدعاية لها عبر نوافذهم الإعلامية، هذا صحيح للأسف وظل كذلك لفترة طويلة في السوق المصرية، لكن من قال أن استخدام الإعلام كقوة مؤثرة على طاولات المفاوضات في مجالات أخرى يعني ترك القنوات والصحف تحقق كل هذه الخسائر رغم وجود فرص لتحقيق الربح أو على الأقل الهروب من الخسارة؟.
مليار دولار، أي 18 مليار جنيه بسعر البنك بعد تعويم العملة المصرية، أنفقها المرشحان لرئاسة أمريكا، ترامب وكلينتون على الدعاية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حسب تقرير للزميل محمد إسماعيل منشور في هذا الموقع، هذا الكم من الأموال خسرته وسائل الإعلام التقليدية، وذهب للنوافذ التي باتت تتحكم في تكوين الرأي العام في معظم بلاد العالم، فيس بوك وتويتر وغيرها من وسائط التواصل الاجتماعي، نوافذ تتيح للمعلن سواء كان مرشحا للرئاسة أو شركة لبيع لعب الأطفال أن يصل للمستهدف أيا كانت شريحته العمرية ومكان سكنه واهتماماته الشخصية بدقة لا توفرها إعلانات القنوات التلفزيونية.
ما سبق بدأت بشائره تظهر في مصر لكن من ناحية المعلنين لا القائمين بالاتصال، المعلن بات مستعدا للاتفاق مع نجم معروف وتصوير إعلان وبثه فقط عبر فيس بوك ويوتيوب، ليعرف دقيقة بدقيقة عدد مشاهدي الإعلان بدل تكراره بكثافة مملة بين فواصل المسلسلات وبرامج التوك شو.
ماذا فعل القائمون على الإعلام التقليدي لمواجهة هذا التحول؟ لا شيء، بالنسبة لهم “الفلوس مش كل حاجة” ، المهم أن يراضوا هذا المذيع، ويلمعوا تلك الممثلة، ويقدموا رسالة سياسية “مرضي عنها” وحسب، وكل ذلك لا مانع من حدوثه بالمناسبة، لكن لا تفسير أيضا لترك صفحات هذه القنوات على مواقع التواصل الاجتماعي خاوية على عروشها، بها ملايين المتابعين لكن لا تفاعل، لا استغلال إعلاني، لا مجال لتحويلها مصدرا للدخل.
مواقع القنوات عبر الويب -إن وجدت أصلا- هي عبارة عن ظل باهت للشاشات الأصلية، رغم أن المتعارف عليه هو الفصل بين أسلوب تقديم المادة على التلفزيون وإعادة تقديمها عبر الإنترنت.
اجتماعات، بيانات، مؤتمرات صحفية، معارك بين قيادات تلك القنوات على شراء حق مباراة في الدوري، أو الحصول على توقيع ممثل محبوب لرمضان 2017، لكن لا أحد يفكر ماذا سيفعل ويقدم في رمضان 2020 وهل ساعتها سيكون الناس ملتفون حول نفس الشاشات وقت الإفطار؟، أم يصلون بين تلفزيون البيت وخط إنترنت سريع يأتي لهم بما يريدون أن يشاهدوا بعيدا عن الفواصل الإعلانية الطويلة؟، والمواد التي يتم بثها فقط عنادا مع القنوات المنافسة دون التفكير في تقديم ما هو مختلف والمغامرة بتجريب مواد تلفزيونية تشعر المتفرج أن هناك من يجتهد لإرضائه.
هؤلاء الذين يتعجبون من إقبال المتفرج المصري مؤخرا على النوستالجيا لم يسألوا أنفسهم عن السبب، وظنوه فقط مرتبط بالحنين للماضي، لكنه بعبارة أدق حنين لمصداقية واحتراف لا يجدها نفس المتفرج في مُنتجات هذه الأيام.
مليار دولار ربحتها مواقع التواصل الاجتماعي من ميزانية حملات كلينتون وترامب، فكم ستربح الميديا المصرية من ميزانيات الانتخابات الرئاسية في مصر 2018؟، أخشى ما أخشاه أن يظل الوضع على ما هو عليه، لا صفحات مؤثرة عبر السوشيال ميديا، لا مواقع إلكترونية تتمتع بالمصداقية، فتذهب الأموال كلها إلى اللجان الإلكترونية، وهذه الأخيرة أيضا انتهى تأثيرها حتى لو ظن من “جرحتهم” الفضيحة أنها مجرد عاصفة، وستمر.