منذ قيام ثورة يناير 2011 بدأت في خوض غمار المعارك الفكرية بين العديد من الأنماط البشرية ولكن كانت أرض المعركة للاسف هي العالم الأفتراضي، عالم السوشيال ميديا وخاصة موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، ولكن تلك المعارك منذ حينها ومرورا بفترة المجلس العسكري ثم تولي الأخوان حتى ثورة 30 يونيو وما تلاها من تغير في ترتيب قطع الشطرنج، فهذا الذي كان ثوريا جدا تحول إلى منقاد جدا، وذاك الذي كان موافق جدا تحول إلى ثوري جدا، وغالبهم بكثير من الشطط، وقليل من ثبت على توجهه ربما اتساق مع إيديولوجيته، أو لثباته على مباديء معينه مهما أختلفت المعطيات أو الأشخاص
في لحظة صدق مع النفس بدأت في رصد عدد من تلك الأنماط من الزملاء الباحثين والأساتذة المؤرخين وأنا أولهم، وجدت أن غالبيتنا إلا من رحم ربي يتخذ تلك المواقف تبعاً لأيديولوجيته، فذاك ناصري موافق على كل ما هو عسكري فاشستي أو قومي، وهذا ثوري معترض معظم الوقت، وذلك ذو سمت إسلامي يحكم بمنظور ديني وهكذا
تراجعت خطوات للوراء لرصد مواقفي ومواقف هؤلاء بكل اختلافاتهم، وجدت أننا حتى بيننا وبين بعض نتراشق بالألفاظ وربما نزيف الأشياء ونتلاعب بالألفاظ ونضيف الحجج التاريخية والسياسية لتبرير مواقفنا وإثبات وجهة نظرنا، كثير منا لجأ لحالة الحظر حتى لا يرى رأي الأخر هذا، أو حتى لا يعلق عنده فيصرف ويشتت ذهن القاريء لما هو عكس المكتوب والذي بالطبع مكتوب للتأثير على المتابعين وليس لطرح وجهة نظر للنقاش
اكتشفت أن أحد الأساتذة الجامعيين الذي عين مؤخرا رغم كبر سنه ودخوله لمجال الدراسات العليا متأخرا حذفني لمجرد أني أفند كثير مما يقول على صفحته وأناقش وأحلل وكثير من متابعيه من طلابه بالتأكيد مسيطر عليهم نزق الشباب والحمية الثورية كانوا يجارونني في النقاش وربما ينتهي النقاش بهدم منشوره من بابه
أهكذا بتلك البساطة أحببت أن يكون رأيك هو الأوحد، أذن ماذا سيكون الوضع مع ما تكتب في كتبك وأبحاثك، وأخر أخواني التوجه كان يترك أي منشورا والا يعلق إلا على تلك التي توافق هواه، أو التي ستمكنه من الهجوم وطرح والشكوك
لقد كشفت مواقع التواصل عن هوية الكثير من الباحثين والأساتذه ربما لم تكن قبلها غير واضحة، أو واضحة بين من هم منتسبين للوسط بشكل أو أخر ومطلعين على مناقشات وندوات لهم
ربما أنا الآن أعلم من هو ناصري مثلا وأقرا كتاباته بعين الريبة في المعلومات المطروحة إن تناولت الفترة الناصرية وما قبلها وربما تمتد لما بعدها أيضاً، ولكن ما حال القاريء الهاوي أو الطالب هل سيدرك أن هذا الأستاذ ربما جاء بروايات مشكوك فيها، أو ربما ضخم الحقائق لفرض رؤية ما
ذات يوم قرأت منشورا لأحد الأساتذة ينتقد الكتابات التاريخية التي تناولت التاريخ الإسلامي وطرحوا منها المثالب كلها فأظهروها حقب لا مشاكل فيها، واظهروهم شخصيات ملائكية، ثم تسائل ماذا سيحدث أن ذهب هذا الطالب وبحث ونقب وقرأ الوثائق والمتون الأصلية وحصل على روايات تفند كل ما درسه فيما قبل، او ماذا سيحدث أن ظهر شخص ما عاشق لهدم المتون وأخذ يقول كذا وكذا فبهت الناس وتشككوا، لم لا نكون منصفين في عرض الحقائق، طارحين ديننا وغيرتنا عليه جانبا لنقول الحقيقة كاملة دون إنقاص، فلا نآله هذا والا نشيطن ذاك
هل حقا نحن نكتب التاريخ هكذا نآله هذا، ونشيطن ذاك، نصدر إيديولوجيتنا في أبحاثنا وكتبنا، أم توجهاتنا فقط هي مجرد تعبير على وسائل التواصل وفي مقالات الرأي لمجاراة الأحداث الجارية، هل عندما نتصدر لكتابة أحداث اليوم في الغد القريب تاريخا هل سننصف؟ أم سيكتب كلا حسب توجهه وإيدولوجيته، هل نبحث خلف خلفية كل أستاذ وباحث ونمنعه من الكتابة في الحقبة التي تناسب إيديولوجيته ويمكن أن يضفي أراءه وتظهر شخصيته في بحثه، فنمنع الناصري من كتابه ما بعد ثورة يوليو وحتى الآن وكل الفترة التي تولاها عسكري ما، ونمنع الأخواني من التصدر لكتابة عهد مرسي وما بعده، ونمنع القومي من كتابة تاريخ العراق وليبيا وسوريا الآن، بل هل سنذهب أبعد من ذلك ونغوص في أعماق أكبر لنعرف من سلفي ومن شيعي ومن تكفيري مثلا
نعم نعم لا تتعجبوا فوسائل التواصل كشفت كل شيء ستجد هذا استاذا في جامعة كذا في بلدة كذا وكل منشوراته توسل بسيدنا الحسين وسيدنا علي وفيديوهاته أحاديث الأفك وسب الصحابة واحتفالات النجف وخلافه، هل مثل هذا الأستاذ سيكون آمينا في كتابة التاريخ الإسلامي أو عهد الفتنة الكبرى ؟؟!!، وستجد هذا أستاذ سلفي، وذاك يرى أن تنظيمات الجماعات الإسلامية هي حق وأنهم يحاربون الطغيان والعدوان ويدافعون عن السنة ضد الشيعة الكفار
عندما درسنا منهج البحث التاريخي علمونا وشددوا علينا أن من أهم صفات الباحث هي الموضوعية، أن يكون كالقاض من القضية، لا يميل ويبعد والا ينحاز، ولكننا أكتشفنا أن هناك أساتذة كتبو ومالوا وانحازوا، وأن هناك باحثين ذوي توجهات مختلفة، فكيف سيكتبون التاريخ،
سؤال يشغلني، وأمر جد يحيرني، كيف تكتبون التاريخ.