عندما يصبح الواقع مأساوي والموت ظاهرة اعتيادية، بسبب الحروب والانقسامات السياسية ويسود العنف والعنصرية فى البلدان وتلطخ الدماء يد الجميع، يجب على الإنسان أن يواجه كل ذلك بالحب لا بالسلاح فالحب هو أشرس عدو للحرب، وهذا هو منهج المخرج الصيربي المشاغب أمير كوستاريكا الذى صنع فى أفلامه لوحات سيريالية مطعمة بالحرب والحب فى إطار فانتازي.
فى طريق التبانة أو “الدرب اللبني” مزج كوستاريكا بين الواقع والخيال من خلال سرد قصة حب حقيقية ثم خلق لها طابع إسطوري، وكعادته لابد أن تكون الحيوانات أبطالا فى العمل، ففي فيلمه “الحياة معجزة” كانت الحمارة بطلًا أساسيا تريد التخلص من حياتها بسبب فقدانها حبيبها الحمار، أما فى فيلم “في طريق التبانة” اختار كوستا الثعبان بطلًا حيويًا يظهر فى اللحظات الحرجة لينقذ “كوستا” من الموت مرات عديدة.
تظهر الحيوانات فى أعمال كوستا مبهرة للغاية لا تجعلك تخرج من قاعة العرض إلا بعد ترك بصمتها فى روحك، فى الوقت الذي لا يسلط الضوء عليها بشكل كبير فى أغلب الأعمال الفنية، رغم أهميتها منذ العصور الوسطى فى خلق العديد من الأساطير، وذكرها الله فى الكتب السماوية، وكان لها قصص شيقة للغاية بداية من هدد سليمان، كما أن الثقافات الموروثة المتصلة بالحيونات تؤثر فى قرارتنا بشكل كبير بوعي او بدون وعي.
منا من يتشاءم من صوت الغراب والعكس، حتى وصل الأمر فى القرن الثالث عشر إلى إصدار المحاكم المدنية عقوبات صارمة على الحيوانات، على سبيل المثال منها قام أحد الجلادين بمدينة بازل بتنفيذ حكم الإعدام سنة 1476 بأحد الديكة لأنه ـ حسب ما ذكر ـ وضع بيضة!!، كما كان يربط الفراعنة بالحيوانات عاطفة مثيرة خصوصًا تجاه الأفاعي والثعابين ما بين خوف وحب وقد وصل الأمر إلى التقديس.
يجمع كوستا بين التناقضات والصراعات المختلفة والتي يربط بينهم بوسيط فى أعماله، في “الحياة معجزة” كان القطار هو الوسيط بين البوسنة وكرواتيا ليخبرنا أن الخط الفاصل بين أمرين كثيرا ما يكون سبب ارتباطهما، أما فى “طريق التبانة” اختار أن يكون هو الوسيط الذى ينقل اللبن بين القرى خلال الحرب اليوغوسلافية وفى طريقه يطعم الثعبان رفيقه فى الفيلم.
فى أعماله السينمائية يعرف كوستا بدمويته، ولكنه ماهر فى مرور تلك المشاهد بسلالسة خلال أحادث الفيلم ويرجع ذلك لثقافته وتوجهاته السياسية والتى تظهر بقوة فى أفلامه، كما أن للموسيقى نصيب كبير فى أعماله، فالموسيقي الصاخبة بالنسبة له هى لغة الكون التى يفهمها الجميع مهما اختلفت أعراقهم أو توجهاتهم السياسية.
الحلول الغريبة والغير منطقية وسيلة كوستا للهروب من “النهايات التعيسة”، يطير فى الهواء، ينقذه ثعبان، يختفي، لا يهم كوستا الوسيلة ما يشغله هو إنقاذ الموقف، مما يجعل الطابع السريالي يظهر فى العديد من اللوحات التى يرسمها خلال الفيلم، فيجعلك طوال الوقت تتأرجح ما بين الواقع والخيال تضحك وتبكي وترقص وتغني وتصرخ فى وقت واحد، فالفانتازيا والكوميديا السوداء والحرب والحب والدماء التى يعتمد عليها قادرة على خلق صخب بالنفس البشرية بشكل رهيب.
تطرف شخصيات كوستا وجنونها يشبهنا فى كثير من الأمور بداية من كوستا ومونيكا وميلينا التى تعريد الزواج من كوستا رغما عنه وشقيقها المهوس بالقتل والسيدة العجوز حتى تلك الساعة الكبيرة كانت بطلًا مهما بالعمل، جميعنا بداخلنا أمور جنونية وأسرار قديمة نهرب منها ومخاوف وأعداء، فطالما نجده يحاول فك شفرات النفس البشرية بشكل عبثي مجنون، فالحياة ماهى إلا لعبة جنونية نهايتها الموت، فلماذا لا نعيشها بقواعد اللعبة بشرط أن يبقى دائما معنا أوراق لم تكشف بعد.
مونيكا بيلوتشى، تلك الساحرة التى تمتلك أنوثة نادرة، تمكن كوستا من وضعها فى دور مخالف لطبيعتها، عميلة سرية من أب صربي وأم ايطالية تحاول الاجهزة السرية التي تطاردها قتلها. وهي تقع في حب رجل يحمل الحليب يوميا من خلال عبور خطوط الجبهة ويغذي الأفاعي على طريقه، وبالفعل تمردت مونيكا على أنوثتها وقدمت دورا عظيما وكأننا نرى شخصا آخر غير تلك الفاتنة التى اعتدتنا على رؤيتها، وعندما سئل كوستا عن سبب اختيارها، أجاب “لا يوجد شخص آخر يصلح للدور إلا هي”.
مشهد النهاية جاء مناسبا جدا للحبكة الدرامية والجنون السريالي، فالثعبان الذي ينقذ كوستا من الموت طوال الفيلم، لم يستطع إنقاذ مونيكا لأنها لا تؤمن من داخلها إنه صديق، ربما علينا الإيمان بأصدقائنا كي يتمكنوا من مساعدتنا، ويكرس كوستا حياته بعد ذلك لحماية الآخرين حتى لا يلقوا نفس مصير حبيبته، من خلال قيامه تغطية مواقع الإلغام بالصخور، إيمانًا منه بأن الحب هو الوسيلة الوحيدة للقاءها فى الحياة الآخري لقاءا أبديًا، فمن رحم العنف تولد الرحمة، وبالحب وحده نكسب الحرب.