لماذا لا تمر دورات مهرجان القاهرة بهدوء، تخرج بنتيجة التعادل، لا ناجحة ولا فاشلة، هذا أمل الكثيرين بالمناسبة، سواء القائمين على المهرجان -حتى لو ادعوا أنهم يستهدفون دورة ناجحة-، أو المحبين للمهرجان وللسينما المصرية الذين يريدون التمتع بشعور زائف بالرضا عن كوننا عدنا من جديد ننظم مهرجانا يفلت من فخ الفشل حتى ولو لم يصل إلى خط النجاح.
باختصار، النجاح أو حتى الخروج بالتعادل لن يحدث لأنه لا توجد إرادة حقيقية لتفادي الوقوع في مصيدة التسلل، لا يمكن أن تلعب المباراة نفسها كل عام بنفس الأخطاء ثم تتوقع الخروج بشباك نظيفة، حتى لو لم تحرز أهدافا، يحدث هذا رغم تغيير الإدارة عدة مرات في سنوات ما بعد ثورة يناير، الأمر الذي يؤكد أن الأزمة ليست في الأشخاص وإنما في مناخ عام فشل معه هؤلاء الأشخاص في الخروج بأقل الخسائر.
المتابعون الذين لا يتذكرون المهرجان إلا في أيام انعقاده لا يجدون أمامهم سوى مشاعر الدهشة والاستغراب، والسؤال المزمن؛ لماذا نفشل في تنظيم هذه الفعاليات وتحدث هذه المواقف المحرجة؟، التي من بينها مثلا على سبيل المثال لا الحصر، أن عاملات النظافة استخدمن “المقشات” في تنظيف السجادة الحمراء!! وأن مجموعة من العاملين في المهرجان “تشاجروا” مع بعضهم البعض حول أسلوب نقل لافتة تكريم محمود عبد العزيز من ساحة الأوبرا إلى المسرح المكشوف؟.
الذين يشعرون بالصدمة عاما تلو الآخر بسبب هذه الأخطاء وغيرها من الخطايا التي شهدتها هذه الدورة تحديدا، لا يعرفون أن الأزمة بدأت قبل أعوام عديدة، لكن يمكننا اختيار عام 2004 ليكون البداية، حيث ظهر مهرجان دبي السينمائي الدولي ووقتها غادر معظم النجوم المصريون مطار القاهرة متوجهين للإمارة الخليجية لحضور المهرجان الذي أصبح طرف أيمن لكماشة طرفها الأيسر مهرجان مراكش بالمغرب وكلاهما نجح لأسباب لم تتوفر في مهرجان القاهرة في الاستحواذ على الاهتمام الأكبر من صناع السينما العرب والعالميين بل والمصريين أيضا.
باختصار عندما ظهر المنافسون سقط العمود الأساسي الذي كان يحمى مهرجان القاهرة من الانهيار، وهو كونه المهرجان الدولي الوحيد في المنطقة، وظلت إدارات المهرجان المتعاقبة تخدع أنفسها وتخدع المتابعين للمهرجان بأنه يحمل الشارة الدولية، تماما كأي منتخب فاز ببطولات كبرى في خمسينات وستينات القرن الماضي ولايزال يريد من الآخرين أن يعاملوه على أساس تاريخه لا حاضره.
أي صانع أفلام كان يأتي لمهرجان القاهرة ويتحمل أي مشكلات في التنظيم باتت أمامه خيارات عدة، أبرزها دبي ومراكش، بجانب مهرجانات أخرى توفر عناصر جذب لا توفرها إدارة مهرجان القاهرة، أيا كان الرئيس والمدير الفني.
الجانب السياحي انهار تماما في المهرجان، ولن يأتيك نجم عالمي حتى يرى الأهرامات، وتستغل أنت اسمه من أجل الترويج لمهرجانك “الدولي”، الإدارات الأخيرة فشلت في إقناع الرعاة بالدفع من أجل الحصول على موافقات النجوم العالميين، أو استقطاب الأفلام المهمة، باختصار نحن نتحدث عن مهرجان كان دوليا وأصبح إقليميا بفعل عوامل التعرية، ولا بديل سوى الاعتراف بهذه الحقيقة إذا أردنا أن يستعيد مهرجان القاهرة بهاءه من جديد، ولن يحدث ذلك دون إرادة سياسية؛ قرار من الدولة بأن هذا المهرجان لابد أن ينجح، وأن يتخطى أزماته المزمنة التي تجعل الدورة 38 تخرج بنفس نتيجة الدورة 37 ومثلها ستكون الدورة 39 لأن لا شيء حقيقي يتغير.
الأزمة الأولى: مفيش سينما في مصر
تمثيل السينما المصرية في المسابقة الدولية هو مصدر أبرز أزمات المهرجان عاما تلو الآخر، ووصل الأمر هذا العام لعرض فيلم دون المستوى اسمه “البر التاني” لصاحب شركة مقاولات قرر أن يصبح ممثلا ومنتجا بفلوسه، أما الأفلام التي تستحق المشاركة في المسابقة الدولية وتحصل على جوائز خارج مصر مثل “نوارة” و” اشتباك” و” آخر أيام المدينة”، فتذهب أولا للمهرجانات المهمة لأنه لا يوجد تشجيع ودعم حقيقي من المهرجان المصري، وعندما تتوافر الظروف لعرض فيلم مثل “آخر أيام المدينة” تحدث مهزلة قبوله ثم استبعاده بشكل جعل حضور فيلم “البر التاني” يموتون عجبا من إهدار فرصة عرض فيلم مميز حاصل على جوائز فعلا واستبداله بفيلم لن يراه إلا أصدقاء المنتج وعمال شركاته.
بالتالي فالمطلوب أن يتحول المهرجان إلى “مؤسسة” قائمة طوال العام تتواصل مع منتجي الأفلام المستبشر بها خيرا وهي في مرحلة الكتابة وتقدم الدعم اللازم بشرط أن يحصل المهرجان على حق العرض الأول للفيلم وهو ما يمكن أن ينطبق أيضا على الأفلام العربية، حيث شهدت دورة هذا العام عرض العديد من الأفلام “المحروقة” سواء تجاريا أو في مهرجانات أخرى، والمعروف أن المهرجان يكتسب أهميته من كم الأفلام الجديدة المعروضة خلاله وإلا تحول لأسبوع أفلام هدفه أن يعيد عرض الأفلام المنتشرة إقليميا وعالميا على سكان القاهرة وحسب.
الأزمة الثانية: السجادة الحمراء من الخجل
من المفترض أن يكون السؤال الطبيعي هو لماذا لا يظهر النجوم في فعاليات المهرجان، لكن السؤال الذي بات مزمنا هو الآخر لماذا لا يظهر النجوم على السجادة الحمراء في حفلات الإفتتاح والختام، ولماذا باتت السجادة حمراء من الخجل نتيجة وجود من ليس لهم علاقة بفن السينما، هذا العام على سبيل المثال اختفت الممثلة التي لا تمثل غادة إبراهيم صاحبة المواقف المثيرة للجدل على سجادة مهرجان القاهرة، لكن الفرحة لم تتم، حيث ظهرت سما المصري غير المصنفة كفنانة من الأساس، وظهرت أيضا مجموعة من غير المعروفين الذين إما قدموا أدوارا هامشية في مسلسلات وافلام، أو لا علاقة لهم بفن التمثيل أساسا، كالعادة إدارة المهرجان نفت علاقتها بوجودهم، لكنه عذر أقبح من ذنب، فلو أن الإدارة حاسمة لعرفت من أين تسربت الدعوات ووصلت ليد هؤلاء كي يستخدمن السجادة الحمراء لأكبر مهرجان مصري من أجل الحصول على شو إعلامي لا يقدر بثمن؟.
بعيدا عن “المغمورات” فإن المهرجان منذ انتهاء ولاية عزت أبو عوف وهو يفتقد النجوم الذين كانوا يأتوا من أجل “عزت” وتلك أزمة أخرى، فهل يجب أن يكون رئيس المهرجان نجما حتى يأتي النجوم، لماذا لا يأتون من تلقاء أنفسهم، لماذا يعتذر بعضهم بسبب الانشغال بتصوير أحد الأعمال، أليس من المفترض أن تتوقف الحياة الفنية لعدة ساعات حتى يبدأ وينتهي حفل افتتاح مهرجان مصر الأول؟
باختصار الأمر مرتبط أيضا بغياب المؤسسة التي تعمل طوال العام، والتي تتواصل مع الفنانين دائما وبوجود شخصيات مرتبطة بالوسط الفني، وتفكر في كيفية الاستفادة من النجوم ليس فقط دعوتهم لحفل الافتتاح وإنما أيضا أن يقدموا نجوما أخرين من الضيوف في باقي الفعاليات، وغير ذلك من النشاطات الجاذبة للنجوم لو أن هناك إرادة حقيقية في استقطابهم، يضاف إلى ما سبق أهمية التنظيم على السجادة الحمراء، فليس كل النجوم سما المصري، هناك من ذهبوا لمهرجانات محترفة ويعرفون أهمية وجود مرافق يستقبلهم على طرف السجادة الأول ويصل بهم حتى المقعد المخصص لهم في المسرح الكبير، وهي المقاعد التي ذهبت هذا العام بالمناسبة للشركات الراعية وشركات الدعاية التي باعت للمهرجان “التروماي” ممثلا في الأفلام ضعيفة المستوى.
الأزمة الثالثة: غياب نجوم هوليود
كنا نلوم الراحل الكبير سعد الدين وهبة لأنه في أحد الدورات استضاف نجوم مسلسل تلفزيوني هو “الجريء والجميلات” وفي دورة أخرى كان الضيف هو “آميتاب باتشان” في وقت كنا نتعامل معه باعتباره ممثلا للأفلام الهندية التجارية وحسب، لكن المهرجان في السنوات الأخيرة بات عاجزا حتى عن استضافة نجوم هوليود من الدرجة الثانية، هؤلاء يتقاضون أموالا باهظة، وهذا حقهم، لكن الفائدة من ورائهم كبيرة، وفي هذه النقطة تحديدا لا يمكن القاء كل اللوم على المهرجان، طبعا لو أنه تحول لمؤسسة مستقلة لها ميزانية حقيقية وتعرف كيف تعوض الإنفاق لأصبح جذب النجوم العالميين سهلا، لكن حتى يحدث هذا لدينا حكومة تنفق الملايين على أغنيات من نوعية “مصر قريبة” وتبثها عبر الشاشات الخليجية، فيما لا تخصص ميزانية لاستقطاب ولو نجم عالمي واحد يأتي لدار الأوبرا المصرية ويمكن التقاط صور تذكارية معه في كل المعالم السياحية الممكنة، عندما تتذكر ما حدث مع النجم الأمريكي مورجان فريمن عندما كان يصور فيلمه الوثائقي “قصة الآله” ستعرف أن الأزمة هذه المرة أزمة دولة لا إدارة مهرجان.
الأزمة الرابعة: الجمهور راح فين؟
عادت أفلام مهرجان لتخرج من جديد بعيدا عن أسوار الأوبرا في الدورة الأخيرة، وتم تخصيص شاشتين في وسط البلد لهذا الغرض، لا توجد دلائل حتى الآن على الإقبال الكثيف من الحضور، أفلام معينة أيضا هي التي لاقت اقبالا داخل دار الأوبرا، صيت المهرجان لم يخرج بعيدا عن الدائرة المهتمة بالسينما والتي تبحث من تلقاء نفسها عن الجديد وتذهب لقطع التذكرة، أخشى أن أطالب بمقارنة بين عدد حضور بانوراما السينما الأوربية وأفلام مهرجان القاهرة، عموما بعيدا عن الأرقام، جمهور السينما الواسع في العاصمة، الجامعات والطلبة، معظمهم بعيد عن المهرجان بسبب قلة الدعاية، غياب الدعم الإعلامي الحقيقي من القنوات التلفزيونية الخاصة، الاكتفاء بالترويج المحدود عبر السوشيال ميديا، هذا العام هناك تطبيق على الموبايل لأول مرة، هناك تطور في الموقع الإلكتروني، لكن كل هذه بدايات كان يجب أن تحدث منذ سنوات، ويجب البناء عليها من أجل أن يتضاعف تأثيرها في دورة العام المقبل، عندما يشعر سائقو التاكسي وأصحاب الأكشاك وعمال المقاهي في وسط القاهرة وبجوار الأوبرا أن هناك مهرجانا للسينما فهذا هو المعيار الأهم للنجاح.
الأزمة الخامسة: تجيبها كدة تجيلها كدة هي كدة
ليس بالإمكان أفضل مما كان، نجوم البلد لم يظهروا، الأفلام متوسطة المستوى، لا أموال لنجوم هوليود، الجمهور بمعناه الواسع غير موجود، يتبقى إذا أن نخرج بالدورة نفسها بأقل قدر من عدم التنظيم، لكن ذلك دائما من الصعب الوصول له، كارنيه دخول المهرجان لأول مرة بتصميم لا يسمح بتعليقه في الرقبة كما يحدث في كل مهرجانات العام، الأسماء مكتوبة تارة بالإنجليزية وتارة بالعربية، نظام جديد لقطع التذاكر منعا للزحام، شباب زي الفل يرشدون الحضور لمواعيد الأفلام وأسلوب الحصول على التذكرة، لكنهم لا يعرفون شيئا عن الأفلام نفسها ويخطئون في نطق الأسماء، مواعيد بعض الأفلام تتبدل فجأة، رئيس المهرجان تقول أنه لا عروض مستقلة للصحافة لأنه قيل لها الصحفيون لا يأتون في الصباح الباكر، طيب نعمل العروض 12 أو 3 ظهرا، لا أحد يفكر في بدائل، على الأقل لو هناك عروض للصحافة وغاب عنها الصحفيون لن يحق لهم الغضب لأن بعض صناع الأفلام اشتروا عشرات التذاكر لتوزيعها على أصحابها فتحول المهرجان بالنسبة لهم لعرض خاص يقام مجانا، فقط دفعوا ثمن التذاكر، أما المهرجان فدفع ثمنا باهظا بسبب كل هذه الأخطاء.
أخيرا: الأزمات مزمنة بالفعل، لكن إدارة المهرجان عليها إما أن تعالجها أو تترك المسؤولية لمن هو قادر على ذلك، أن تجبر الدولة التي تتباهي بأن لديها مهرجان سينما على التحرك من أجل انقاذه، أما سياسة دورة تفوت ولا حد يموت، فقد أثبتت فشلها، لأن المهرجان بهذه الطريقة سيموت، حتى لو لم تعلن وفاته رسميا.