(1)
تقول الحكاية أن عامر منيب المعيد بكلية التجارة بجامعة عين شمس، قد قرر الهجرة إلى أستراليا لاستكمال دراسته والعمل هناك، بحثًا عن مستقبل أفضل. وفي إحدى ليالي شهر رمضان عام 1987 وقبل سفره بأيام وربما ساعات قليلة أراد توديع أصدقائه المقربين، فدعاهم للسحور في إحدى الأماكن، وهنا تدخل القدر ليضع كلمته الحاسمة ويختار له طريقًا آخرَ تمامًا.
بالصدفة كان يتواجد في نفس المكان مجموعة من الفنانين وهم نور الشريف وبوسي ومحمود ياسين وشهيرة وفاروق الفيشاوي والملحن حلمي بكر، فطلب أصدقاء عامر منه أن يقوم ليغني أمامهم وهم يعلمون بالطبع مدى حبه للغناء وامتلاكه لصوت جميل، تردد عامر منيب في البداية ولكن وسط إلحاح أصدقائه لم يملك إلا أن يقوم ويغني، فجذب الأنظار ولقى غناءه استحسان كل من في المكان، بمن فيهم مجموعة الفنانين الذين دعوه للجلوس معهم وكانت سعادتهم بالغة عندما اكتشفوا أنه حفيد الفنانة الكبيرة ماري منيب.
وقبل أن تنتهي السهرة كان حلمي بكر يحدثه على انفراد بضرورة إلغائه لفكرة السفر والبقاء في مصر لأن هناك مستقبلًا كبيرًا ينتظره في عالم الغناء بشرط أن يثقل موهبته بالدراسة. وربما هذا الموقف ما جعل حلمي بكر يتحول بعد ذلك من ملحن إلى مكتشف للمواهب والأصوات الجديدة قبل أن يعين نفسه في مرحلة لاحقة وصيا على الفن وضيفا دائما على الفضائيات بسبب تصريحاته العدائية تجاه أغلب المطربين ومعاركه التي لا تنتهي معهم.
كان أول ما فعله عامر منيب في هذه الليلة بعد عودته إلى المنزل أنه قام بتقطيع تذكرة السفر، وفي صباح اليوم التالي ذهب إلى الأستاذ عاطف عبد الحميد عميد كلية التربية الموسيقية بجامعة حلوان في ذلك الوقت ليبدأ مشواره في دراسة الموسيقى وتعلم فنونها حالما بذلك المستقبل الكبير الذي ينتظره..
( 2 )
الموقف السابق يوضح أن عامر منيب على ما يبدو لم يكن مؤمنًا بموهبته الغنائية بالقدر الكافي، فقد احتاج إلى من يقنعه بموهبته وبقدرته على النجاح ويضعه على بداية الطريق الصحيح الذي يجب أن يسير عليه، لا أنكر بالطبع أنه اجتهد بعد ذلك وتعلم وثابر ولم ييأس وواصل طريقه حتى نجح في صنع اسمه.
ولكن هذه البداية التي جاءت بتشجيع الآخرين وليس إيمانه هو بنفسه، على ما يبدو قد انعكست على مشواره كله، فكانت البدايات الخجولة والنجاحات البسيطة والتأثير المحدود وحتى عندما لمع بعد ذلك وحقق نجاحًا أكبر لم نشعر أنه يطمح إلى المزيد أو ينظر إلى مدى أبعد مما وصل إليه، ما أريد قوله باختصار أن طموح عامر منيب كان أقل بكثير مما يمتلكه من قدرات وموهبة جميلة وحقيقية..
( 3 )
بعد 3 سنوات من الدراسة والتعلم وتحديدًا في عام 1990 كان ألبومه الأول (لَمَّحي) الذي اضطر أن يبيع سيارته ويقترض بعض المال من أصدقائه حتى يقوم بإنتاجه على حسابه الخاص، في ذلك الوقت كانت هناك طفرة وتغير كبير في عالم الغناء وجيل جديد من المطربين بدأ يلمع منذ منتصف الثمانينات، وقد أدى نجاحهم مع ازدهار صناعة الكاسيت إلى ظهور أسماء أخرى، وبدأت الساحة تمتلىء بالأصوات والألبومات والفرق الغنائية.
وسط كل تلك المعمعة، طرح منيب ألبومه الأول، فكان طبيعيًا ألا يلتفت إليه الكثيرون، ولكنه نجح على الأقل في وضع اسمه على الساحة استعدادًا للتعبير عن نفسه بشكل أكبر في خطواته القادمة، ولكنه اختفى لـ 3 سنوات ربما لأسباب انتاجية أو رغبةً منه في التأنِّي والتحضير بشكل جيد لألبومه الثاني الذي صدر عام 1993 (يا قلبي).
وحقق (الفيديو كليب) الخاص بهذه الأغنية نجاحًا معقولًا فسارع بطرح ألبومه الثالث (أول حب) بعدها بعام ليلاقي نفس النجاح ويبدأ في تلمس طريق الشهرة، ولكنه اختفى لعامين وعاد في 96 بألبومه الرابع (علمتك) الذي مر مرور الكرام، وهو الأمر الذي ربما أصابه ببعض الإحباط فعاد للاختفاء مرةً أخرى..
( 4 )
ربما ظن الكثيرون أن عامر منيب لن يعود مجددًا للغناء وسينتهي مشواره عند ذلك الحد، ففي نهاية التسعينات كان نجوم الصف الأول قد وصلوا لذروة نجاحهم الغنائي يتقدمهم بالطبع عمرو دياب ومحمد فؤاد تليهم أسماء مثل مصطفى قمر وهشام عباس وإيهاب توفيق.
أما أصحاب النجاحات المحدودة فقد أخذوا في الابتعاد تباعًا فبدأت تختفي أسماء مثل علاء عبد الخالق وإبراهيم عبد القادر وخالد علي وشهاب حسني.
وكانت المؤشرات تقول أن مصير عامر منيب ربما لن يختلف كثيرًا عن هؤلاء، ولكنه فاجأنا في ربيع عام 1999 بعودته بألبوم (فاكر) وهي الأغنية التي “كسرت الدنيا” وقتها، وحققت نوعًا من الانتشار والنجاح لطالما احتاجه عامر منيب في سنوات البدايات ولم يجده، فكانت بدايته الحقيقية المتأخرة بعد 9 سنوات كاملة من احترافه للغناء..
(5 )
انفتح الطريق وتوالت بعد ذلك النجاحات فمنذ ألبوم (فاكر) ولسبع أعوام متتالية واظب عامر منيب على طرح ألبوم جديد في كل عام، وأصبح لديه شعبية جماهيرية ليست بالقليلة، فاتجهت إليه أعين شركات الإنتاج الكبرى مثل (روتانا).
وتعاقدت معه شركة (كوكاكولا) على حملة إعلانية خلفًا لهشام عباس لتنافس به (بيبسي) ونجمها الأشهر عمرو دياب، وهي وإن كانت حملة قصيرة العمر ولم يُكتب لها الاستمرار كثيرًا، فإنها تبقى مؤشرًا هامًا على ما وصل إليه عامر منيب من نجاح في تلك الفترة، وما يملكه من رصيد جماهيري سهل له الطريق ليأخذ خطوة الاتجاه إلى التمثيل وتجربة حظه مع السينما.
وبعكس معاناته مع الغناء لم يتأخر نجاحه كثيرًا في السينما، ففيلمه الأول (سحر العيون) مع نيللي كريم وحلا شيحة حقق إيرادت معقولة وصدى جماهيريًا طيبًا، ولكن أفلامه الثلاثة الأخرى (كيمو وأنتيمو) و (الغواص) و(كامل الأوصاف) لم تحقق أي نجاح لا على المستوى الجماهيري ولا على المستوى الفني..
( 6 )
لم يصبح عامر منيب أحد مطربىَّ المفضلين سوى في عام 2002 عندما حرصت على شراء النسخة الأصلية من ألبومه (الله عليك) قبلها كنت أشتري (النسخ المضروبة) التي كانت تباع بـ 3 جنيهات بينما النسخة الأصلية سعرها 10 جنيهات (وما أدراك ما الـ 10 جنيهات في ذلك الوقت).
كنت أمتلك قائمة صغيرة بأسماء محدودة من المطربين أحرص على شراء ألبوماتهم الأصلية وكان انضمام اسم جديد إليها علامة مهمة على أن صاحبه قد أصبح يعني لي أكثر من مجرد مطرب، أحببت عامر منيب لأنني كأي مراهق يحترم نفسه تأثرت بأغنياته الرومانسية وعشت في رحابها قصة حب تقريبًا مع أول فتاة صادفتني وأنا أستمع إلى ألبومه الجديد.
ولكن مثلما كانت الدراما حاضرة في حياة عامر منيب فى مشاهد البداية والنهاية، وإخلاصه التام للشكل التقليدي في الغناء وهو في حد ذاته إخلاص للدراما التقليدية، ومثلما انتهت حكايته مبكرًا وقبل أن تكتمل كانت قصة الحب الوحيدة التى عشتها على وقع أغنياته قصيرة العمر وانتهت قبل أن تبدأ، وكانت الدراما حاضرة أيضا عندما وجدت الفتاة التي أحببتها تسير مع أحد أصدقائي، وهي حكاية أتذكرها الآن وابتسم ولكنها تبقى حكاية أخرى لم تكتمل وانتهت مبكرًا كحكاية عامر منيب نفسه..
( 7)
أخلص عامر منيب للأغنية الرومانسية البسيطة في كل تفاصيلها، فتَوَّجهُ جمهوره بلقب (ملك الرومانسية) وأصبح صاحب طريقة وله شكل غنائي خاص يمتاز به، ظهر من يحاول تقليده كنوع من الاستسهال ولم ينجح في ذلك إلا أقل القليل.
فالميزة أن ما يقدمه عامر منيب كان يشبه روحه، تفاصيل كثيرة مثل ملامحه الهادئة وابتسامته الخجولة وصوته الرائق ذو النبرة الحزينة والتي تتضح أكثر في أغانيته الغير حزينة، كلها تفاصيل جعلت من هذه الحالة “لايقة عليه ومتصدقة منه”.
فإذا كان هناك درس ما في تجربة عامر منيب كلها، فهو أنك إذا ابتعدت عن الافتعال ستصل إلى القلوب بسهولة حتى لو كان ما تقدمه بسيطًا وعاديًا أو غير مبهر..
( 8 )
فى عام 2008 أصدر عامر منيب ألبومه الأخير (حظي من السما) ثم ذهب بعدها إلى السماء وكأنه كان يودعنا بهذا الاسم ويلخص مشواره كله وحكايته التي لم تكتمل في جملة واحدة.
ومثلما تدخل القدر ومنع خروجه من مصر في البداية، تكرر نفس الأمر في مشهد النهاية، عندما تدهورت حالته الصحية وحاولت أسرته السفر به إلى المانيا لعرضه على الطبيب الذي أجرى له جراحة إزالة جزء من القولون.
ولكن البلد كلها كانت تمر بحالة ارتباك أثناء أحداث محمد محمود فتأخر الحصول على تصريح السفر ولكن القدر لم يتأخر، ورحل عامر منيب في صباح 26 نوفمبر 2011 لتنتهى حكايته التي لم تكتمل، وقد جاء خبر رحيله هامشيًا وسط انشغال الجميع بأحداث محمد محمود الملتهبة وبما تشهده البلاد من ثورة لم تكتمل أيضا هي الأخرى..