محمد أحمد حسن
أشعل قيام قناة الجزيرة القطرية بإنتاج فيلم وثائقي يهاجم نظام التجنيد الإجباري في القوات المسلحة المصرية، غضب العديد من وسائل الإعلام المصرية، الحكومية والخاصة، وانبرى كثير من الإعلاميين بتلك القنوات والصحف للهجوم على قطر، وقالوا في قطر وحكامها ما قاله مالك في الخمر ووصفوا الفيلم بأنه جزء من حملة الجزيرة ((لتشويه)) سمعة الجيش المصري.
أن يدافع الإعلاميون المصريون عن جيش بلادهم فهذا شيء إيجابي وعظيم، لكن أن يظن الإعلاميون المصريون أن مجرد شن حملات الهجوم على الجزيرة وقطر سيجعل الجزيرة تتوقف عن إنتاجها و (تبوس القدم وتبدي الندم) فهذا هو الوهم بعينه.
لكن قبل أن نتكلم عن غياب السينما الوثائقية عن شاشات الإعلام المصري، علينا أن نتعرف على ملامح الإنتاج الوثائقي للجزيرة العامة والجزيرة الوثائقية حول مصر، حيث نلاحظ أن ذلك الإنتاج الوثائقي لم يترك جانبا من جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية إلا وقد قام بتغطيته.
فإذا كنت مهتما بالتعرف على سيرة قادة وعظماء مصروأردت أن تشاهد أفلاما عنهم فلن تجد فيلما وثائقيا مصريا يروى تعطشك للمعرفة عن تلك الشخصيات، لكنك ستجد بسهولة أفلاما وثائقية من إنتاج الجزيرة الوثائقية عن (محمد علي باشا) و(سعد زغلول) و (مصطفى النحاس) و (الرئيس أنور السادات) و (الفريق سعد الدين الشاذلي).
سيقول لي البعض أنه تم انتاج فيلما مصريا عن الفريق الشاذلي، ولكن إذا قورن الفيلم بفيلم الجزيرة الوثائقية فسنجد أن فيلم الجزيرة الوثائقية (مخدوم) وأكثر احترافية، وكان من الأفضل للجهة المنتجة أن تخصص ميزانيتها لإنتاج أفلام وثائقية لتخليد أبطال الجيش المصري بمعايير احترافية، أما إذا أردت التعرف على أحداث تمثل نقطة فاصلة في تاريخ مصر كالثورة العرابية وحرب أكتوبر وصدى تلك الأحداث في دوائر السياسة في أوروبا وأمريكا من خلال وثائق الأرشيف البريطاني والامريكي والفرنسي، فتسجد أيضا وبسهولة أفلاما من إنتاج الجزيرة عن تلك الأحداث، الأمر الذي يجعلك تتساءل: ألم تكن القنوات المصرية أولى بإنتاج تلك الأفلام التي تتحدث عن تاريخنا وزعمائنا وأبطالنا برؤيتنا نحن بدلا من ترك ذلك الأمر للجزيرة وأخواتها؟!!!!
أما لو كنت شغوفا بالتعرف على سير رموز الأدب والفكر والفن والعلوم، الذين طالما كانوا قوة مصر الناعمة وسفراء الثقافة المصرية في العالم العربي، فستجد أفلاما وثائقية عن (عباس العقاد) و (توفيق الحكيم)، (نجيب محفوظ) و (بيرم التونسي) و (أم كلثوم) و (الدكتور على مشرفة)، من إنتاج الجزيرة الوثائقية، في غياب شبه تام لإنتاج وثائقي مصري عن هؤلاء الرواد.
أما مشاهير قرآء القرآن الكريم المصريين والتي تُجمع القنوات السنية والشيعية -التي تختلف في كل شيء-على إذاعة تلاواتهم، فستجدهم أيضا غائبين عن الإنتاج الوثائقي المصري، فيما أنتجت الجزيرة الوثائقية أفلاما عنهم.
أما لو كنت مهتما بتطور السينما المصرية فللأسف لن تجد فيلما وثائقيا مصريا يشبع نهمك في هذا الصدد، إلا فيما يندر، ولكن هذا الأمر لم تفوته الجزيرة الوثائقية حيث أنتجت فيلما عن المخرج العظيم (عاطف الطيب) الذي قدم للسينما المصرية أعظم أفلامها، بل ووصل بها الأمر إلى إنتاج فيلم عن بدايات فن الرسوم المتحركة في مصر في ثلاثينات القرن الماضي من خلال شخصية (مشمش أفندي)، وقد كانت قناة نايل سينما -على سبيل المثال-أولى بإنتاج تلك الأفلام.
وقد كان للرياضة أيضا نصيب، فقد أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما وثائقيا عن الكابتن محمود الجوهري الذي يعد من علامات الرياضة المصرية، في الوقت الذي لم تقم به ذلك أي قناة رياضية مصرية، أما لو كنت مهتما بالتعرف على جوانب من ثقافة وفلكلور مصر كالموسيقى النوبية وسور الأزبكية، فبالتأكيد لن تجد عنها أفلاما مصرية وإنما ستجد ضالتك في أفلام الجزيرة الوثائقية.
القاسم المشترك بين كل تلك الأفلام هو البحث المضني والجهد الدؤوب في دهاليز التاريخ وأرشيفات الصحف ودُور الوثائق، والتنقيب عن الأوراق الشخصية والمواد السمعبصرية الخاصة بموضوع أو شخصية الفيلم، ومزج كل ذلك بمشاهد تمثيلية لتقريب الموضوع إلى المشاهدين، فيما يسمى بالـ (دوكيودراما)، مما يجعل الفيلم فيلما وثائقيا احترافيا بالمعايير المتعارف عليها عالميا في صناعة الوثائقيات.
ومالا يعرفه الكثيرون، هو أن من يقف وراء هذه الأفلام هي شركات إنتاج مصرية بكوادر مصرية مائة فى المائة ويقتصر دور الجزيرة الوثائقية على التمويل المالي فقط، في ظل إحجام المؤسسات الإعلامية المصرية -حكومية و خاصة-((النائمة في العسل)) عن إنتاج الأفلام الوثائقية لأنها مواد تلفزيونية صناعتها مكلفة وغير جالبة للربح بالنسبة للقنوات الخاصة، أو لضيق ذات اليد وعدم وجود ميزانية لذلك بالنسبة للتلفزيون الحكومي.
هذا لا يعنى أن أفلام الجزيرة الوثائقية مبرأة من الهوى، فعدد من أفلامها الوثائقية التي تدور حول أحداث ما بعد 25 يناير و30 يونيو تحمل وجهة نظر منحازة تماما لجماعة الإخوان، مع إقصاء تام لوجهات النظر الأخرى، ما يجعلها أقرب إلى الأفلام الدعائية الإخوانية منها إلى الوثائقية.
وحتى لا يكون مقالنا جلدا للذات دون تقديم بدائل، مازالت الفرصة أمام التلفزيون المصري الحكومي والقنوات الخاصة لتعويض هذا الغياب الطويل في مجال صناعة الأفلام الوثائقية من خلال الاستفادة من الكوادر المصرية ذات الخبرة في صناعة الوثائقيات، بدلا من أن يضطروا للعمل لدى الجزيرة وأخواتها، فلدينا شخصيات عظيمة وأحداث تاريخية وقضايا معاصرة تستحق أن يسلط عليها الضوء، فلماذا لا تنتج مثلا قناة سي بي سي فيلما عن عالِم الوراثة د/ أحمد مستجير، وتنتج قناة النهار فيلما عن عاشقة مصر والنيل د/ نعمات أحمد فؤاد؟، ولماذا لا تقوم قناة أون تي في بإنتاج فيلم عن القائد العظيم المشير الجمسى وتنتج قناة دريم فيلما عن ثورة 1919 وينتج التلفزيون المصري فيلما عن سد النهضة وأزمة حوض النيل وحقوق مصر المائية، وتنتج قناة المحور فيلما عن الجغرافي العظيم جمال حمدان؟ ولا يجوز التذرع بأعذار واهية من عينة “أن الأفلام الوثائقية غير جالبة للربح”، فالأفلام الوثائقية صناعة رائجة في دول متقدمة، ويكفي أن هناك قنوات خاصة في أوروبا وأمريكا قائمة بالكامل على صناعة الوثائقيات كناشيونال جيوجرافيك وديسكفري وهيستوري تشانل وأنيمال بلانت، وإلا فلا يحق لنا لوم الجزيرة لأن من يترك مكانه شاغرا فحتما سيأتي غيره ليشغل مكانه.