محمد الباز يكتب : احترس من البلاعة

نقلاً عن البوابة

المشهد دال وموجع.

يقف عم راضى صاحب المكتبة أمام شابين من شباب الجماعات الاسلامية المتطرفة، أحدهما صاحب العقار الذى تحتله المكتبه، والثانى يرغب فى شراءها، يحتجون على بيعه كتبا تروج للكفر والإلحاد والاباحية، ولما يسألهم عما يجب أن يبيعه؟، يقول له احدهم بيع كتب ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، يحتج على ما يقولونه، فيتجه أحدهما إلى أرفف المكتبة، يقرأ عناوين الكتب فيحدها لنجيب محفوظ والعقاد ونوال السعداوى، يلقى بها على الأرض، وهو يصرخ فى وجه جمهور المسرح: استغفر الله العظيم.

نرشح لك : شاهد مسرحية فتحي عبد الوهاب بـ 10 جنيهات

لم يكن صناع مسرحية ” بس انت مش شامم” المؤلفان أحمد صبحى وأحمد دياب والمخربة عبير لطفى والنجم المتألق فتحى عبد الوهاب ومجموعة من شباب المبدعين، يعرفون وهم يستعدون لتقديم عملهم المسرحى العظيم، أن نائبا من نواب البرلمان الذين جئنا بهم بعد ثورة قامت ضد الفاشية الدينية الكارهة لأى فكر وأى فن وأى ابداع، سيطالب بمحاكمة نجيب محفوظ وسجنه لأن أدبه يخدش الحياء، وهو ما جعل جمهور المسرح الذى كان معظمه من الشباب يصفق بحرارة كلما ظهرت صورة نجيب ضمن أحداث المسرحية، فى رسالة واضحة الى أن هذا الشعب يرفض بإصرار أن تسرق منه حيويته وتاريخه ومبدعيه الكبار، الذين منحوه وجها مدنيا متصالحا مع الحياة.

المسرحية التى تعرض على مسرح ميامى بوسط القاهرة وأسعار تذاكرها فى متناول الشباب من ١٠ الى ٥٠ جنيهاً، جديرة بأن يشاهدها الشعب المصرى كله، ولو كان عرضها على كل مسارح مصر أمرا عسيرا، فمن الأولى أن يقوم التليفزيون بتصويرها لعرضها عرضا عاما، فهى وثيقة حية على الحرب التى بدأت فى مصر منذ عقود طويلة بين النور والظلام، بين العلم والجهل، بين الفن والانحطاط، بين الأدب وانعدامه، بين التنوير والجهالة، بين مصر المدنية صاحبة الوجه الصبوح وطيور الظلام الذى يريدون طمس روحها وهويتها وألقها.

تدور المسرحية حول فكرة رمزية من خلال إشارات رمزية، عبر فترات ثلاث.

نرشح لك :12 صورة من العرض الأول لـ “بس أنت مش شامم”

الفترة الاولى من أواخر السبعينات بعد أن عاد السادات من تل أبيب ممهدا بزيارته التاريخية لمعاهدة كامب ديفيد، وهى المرحلة التى تمكن فيها أبناء الجماعات المتطرفة من الأرض، وبدأوا فى فرض أفكارهم وآراءهم بعد أن أخرجهم السادات من السجون ليكونوا عونا له فى حربه ضد خصومه من الناصريين والشيوعيين.

يقف فى هذه المرحلة – وهى اللوحة الأولى من المسرحية –  عم راضى يجسد دوره فتحى عبد الوهاب صاحب مكتبة الكتب الثقافية، ليحذر الجميع من السقوط فى البلاعة التى تفوح منها رائحة كريهة، هو وحده يراها بلاعة يزداد اتساعها يوما بعد يوم، بينما يراها الجميع مجرد حفرة صغيرة لا خطر منها ولا خوف.

يستقبل صاحب المكتبة العجوز شاب، يزف له بشرى بأنه جهز له الكتب التى طلبها منها، لكن الشاب يرفض الكتب بحجة أنه يجهز أوراقه للسفر الى السعودية، ثم يتجه الى الحفرة ليسقط فيها، فى إشارة واضحة الى الصحراء التى جاءتنا منها الأفكار المتطرفة التى تخاصم ما نشأت عليه مصر.

الكاشف فى هذه اللوحة أن شباب الجماعات المتطرفة الذين يدوسون على الكتب بأقدامهم الغليظة، لا يختلفون فى شئ عن رجال الأجهزة الأمنية الذين ينفذون حكم إغلاق المكتبة وتسليمها لأصحابها، فهم أيضاً يدوسون على الكتب بأقدامهم الغليظة، وكأننا أمام تحالف غير مقدس بين القوى الظلامية والأجهزة النظامية لوأد أى وكل محاولة للتنوير.

اللوحة الثانية تسجل مرحلة التسعينات، يظهر فيها فتحى عبد الوهاب كصاحب محل تحف وأنتيكات تجاوره فنانة صاحبة محل لبيع الآلآت الموسيقية، يواجهون طول الوقت زيارات من أعضاء جماعة متطرفة يرتدون زيا سلفيا لا تخفى دلالته على أحد، ومن خلال الحوارات التى تدور بين صاحب محل التحف ورجال الجماعة المتطرفة الذين يقودهم عائد من أفغانستان، نكتشف حجم الحفرة التى سقطوا فيها، فنحن أمام من يحرمون كل وأى شئ، فهم ينظرون للمنحوتات على أنها أصنام، ويتعاملون مع موديل المرأة العارى على أنه مصدر للشهوات.

ولا تنتهى هذه اللوحة الا بانتصار قوى الظلام، الذين يهددون صاحب محل التحف ويرددون فى كل مرة ينصرفون عنه أنهم عائدون مرة أخرى، لكن انتصارهم لا يتم الا من خلال التحالف غير المقدس بينهم وبين رجال الأجهزة الأمنية، الذين يفسحون لهم الطريق أمام تدمير محل التحف وضرب صاحبه ضربا مبرحا، فى إشارة الى أن الجماعات المتطرفة لم تعمل فى مصر الا برعاية أمنية كاملة.

نرشح لك :“بس إنت مش شامم” تُعيد فتحي عبد الوهاب للمسرح

فى هذه اللوحة يظهر الممثل الشاب محمد عادل كصاحب محل لبيع شرائط الفيديو، ورغم أن رجال الجماعة المتطرفة يطالبونه بإغلاق محله لأن ما يبيعه يغضب الله ورسوله، الا أنه بفهلوته المصرية يستطيع أن يسايرهم، ويحصل منهم على دعم مالى كبير مقابل أن يوزع تسجيلات شيوخهم على سائقى الميكروباص.

توثق هذه اللوحة الى اختراق المجتمع المصرى من قبل شيوخ التطرف الذين أنفقوا الكثير لنشر أفكارهم الغارقة فى الظلامية،
لكنها تشير أيضاً إلى أن من ساعدوهم على ذلك فى مصر لم يكونوا الا مجموعة من الأفاقين والمحتالين الذين لا يتراجعون عن فعل أى شئ من أجل المال، وهم فى الحقيقة أشد خطرا من الذين يحملون الفكر المتطرف نفسه.

لا يكف صاحب محل التحف فى هذه اللوحة عن التحذير من البلاعة، يتواصل مع الصحفيين ليكتبوا عنها حتى يتحرك المسئولون ليردموها، لكن حتى الصحفيين لا يرون الحفرة ولا يشمون رائحتها، ولذلك من الطبيعى أن يسقطوا فيها هم أيضاً، وحتى الصحفى الذى يعمل فى جريدة ” صوت الشعب” الذى يرى البلاعة ويشم رائحتها، سرعان ما يسيطر عليه صاحب محل شرائط الفيديو، وبعد أن يمنحه سيجارة حشيش يدخنها بنشوة، يتحول الى مضلل، ويقول له أنه لا يرى أى حفرة ولا يشم أى رائحة.

الإشارة واضحة بالطبع فالذين يجب عليهم أن ينبهوا الناس للخطر، لعب أصحاب المصالح فى أدمغتهم، وجعلوهم مغييبن تماما، فبدلا من ان يحذروا الناس من البلاعة وخطرها سقطوا فيه.

اللوحة الثالثة تبدأ من ٢٠٠٦، وفيه تظهر فئة جديدة تجتهد فى اخفاء البلاعة، وهى فئة رجال الأعمال التى تظهر الى جوار رجال الأمن والدعاة الجدد الذين احتلوا عقول الشباب، وجعلوا منهم مجرد تابعين لا يقدرون على شئ.

يجسد فتحى عبد الوهاب فى اللوحة الثالثة دور مخرج أفلام تسجيلية ووثائقية، يجهز فيلما عن البلاعة للتحذير من خطرها، يواجه رجال الأمن الذين لا يمنحونه تصريحا للتصوير فيتحايل عليهم، عندما يقوم بالتصوير من خلال تصريح حصل عليه بعض صناع الإعلانات التجاربة، ويواجه رجل الأعمال الذى أصبح نائبا فى البرلمان فى إشارة الى زواج المال بالسلطة وهى الظاهرة التى سيطرت على سنوات مبارك الأخيرة، رجل الأعمال هذا يخطط لبناء مول فوق البلاعة وفى نفس الوقت يعمل على إصدار قانون فى مجلس الشعب هو قانون البلاعة يخدم به مصالحه، فى تعارض واضح للمصالح، ويواجه أيضاً داعية من الدعاة الجدد الذى يستخدمه رجل الأعمال فى إفساد احتجاجات الشباب على بناء المول.

إننا أمام عمل مسرحى عبقرى، لا يقدم رصدا لما جرى فقط، ولكنه يحمل تحذيرا مما هو قادم، وهنا تكمن خطورته وروعته فى آن واحد، وإذا كانت هناك رغبة حقيقية فى مواجهة الفكر المتطرف وتفنيد أفكاره فلا أقل من أن ترعى الدولة هذا العرض وتمنحه الإمكانيات ليعرض فى كل مكان، حتى يشاهده كل مصرى.

لن أكون مبالغا إذا قلت أن هذا العرض المسرحى الذى لا يزيد عن ساعتين أفضل كثيراً من كل اللجان والجهود التى يبذلها رجال المؤسسة الدينية الرسمية ( الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء) لتجديد الخطاب الدينى، فالمشهد التمثيلى أفضل من ألف بحث وألف ندوة وألف مؤتمر علمى وألف كتاب وألف عظة مباشرة وألف حيلة مصطنعة لمواجهة الخطاب الدينى المتطرف.

لو كنا جادين فى مواجهة التطرف فلابد أن نفسح المجال أمام الفن الجاد ليقوم بدوره فى المعركة.

العرض المسرحى الذى رأيته تنقصه الإمكانيات، وأعتقد أنه لو توفرت له إمكانيات أكثر لخرج بصورة أفضل، فتحى عبد الوهاب الذى هو واحد من أكثر فنانينا موهبة عمل فى العرض دون مقابل، قبل العمل بعد ١٣ عاما من الانقطاع عن المسرح منذ مسرحيته ” هاملت”، لأنه فنان مثقف يعرف جيدا قيمة الفن فى مواجهة التطرف، الكتيبة التى عملت الى جواره وفى مقدمتهم الممثل الواعد محمد عادل، والى جوارهم حنان عادل ورباب طارق وأحمد عثمان وإيجاد أمين وغرامة سعد ومحمود عبد الرازق وأحمد سعد ومحمد الحلواني وأحمد فتحى ومصطفى حمزة ومحمد أباصيرى وهشام عادل وإيمان الشرقاوى يعملون جميعا بحب، يثقون فى رسالتهم التى يقدمونها، ولا ينتظرون ثناءا من أحد، ينتظرون فقط أن تصل كلمتهم الى الجميع.

لقد حذو هذا العرض المسرحى الرائع _  كتب أشعاره حسام حداد ولحنها الفنان الكبير أحمد الحجار ووزعها أحمد الموجى وصمم استعراضاته مصطفى حجاج وأعد مادته الفيلمية كريم شعبان _ من البلاعة التى انفتحت علينا ولم يخرج علينا منها الا التطرف والارهاب والأفكار العفنة، يحذر من اتساعها لأنها قادرة على ان تبتلعنا جميعا، فهل ننتبه لها، أم نستسلم؟ … كل ما أرجوه كما يرجو أبطال العرض ألا نستسلم.