إن المتابعة الدقيقة لأعمال الكاتب (عبد الرحيم كمال) تكشف لنا عن براعة فنية تتجلى أمامنا من خلال تجارب روائية وتلفزيونية متنوعة، وتعد رواية (المجنونة /رحلة للدانمارك وبلاد أخري) من أوائل الإصدارات الأدبية لهذا المبدع المصري.
في البداية ، تستوقفنا ملحوظة تجمع بين الرواية المذكورة وأحد الأعمال التلفزيونية لنفس المؤلف وهو (مسلسل الخواجة عبد القادر)، ذلك أن الكاتب يشير في بداية الرواية إلى بعض التفاصيل الخاصة بشخصية (سليمان باشا الفرنساوي) والتي تتوازى مع شخصية (هربرت / عبد القادر) فى المسلسل المذكور ، فقد أتى كلاهما إلى مصر من دولة أجنبية ، ثم إستقر كلا الشخصيتين داخل مصر لفترة من الزمن ، وتم إستثمار هذه الفترة فى تبادل عدد من الخبرات المعرفية بين المواطن الأجنبى والوطن المصرى ، ولعل وصف الكاتب لموقع قبر ( سليمان باشا الفرنساوي) غريب قابع في قبره .. بجوار مقابر المسيحيين والمسلمين) يذكرنا بموقع ضريح (هربرت / عبد القادر) داخل المقابر الموجودة بصعيد مصر.
نرشح لك : عبد الرحيم كمال يروي كواليس “بواب الحانة”
ومن اللافت للإنتباه ، أن مؤلف الرواية يتعمد التركيز على صفة معينة لبعض الأماكن والشخصيات داخل العمل ، إذ يتم الإشارة إلى الصفة المميزة لكل من منطقة السكن وصديق البطل على إمتداد الرواية كبديل لأسماء الشخصيات والأماكن الحقيقية ، فإذا كانت شقة البطل تقع بجوار شارع سليمان باشا الفرنساوى / منطقة وسط القاهرة ، فإن أغلب الإشارات الخاصة بموقع السكن يتم التركيز خلالها على صفة (الفرنساوى) مثل (ومنها الي شقق متتالية اختتماها بالفرنساوي ـــ كان يجلس منفردا شاردا حينما اتي الي شقة الفرنساوي ـ وحينما يعودان قرب الفجر الي شقة الفرنساوي) ذلك أن المسكن يرتبط على امتداد العمل بأحلام البطل حول السفر إلى الخارج ، كما أن صديق البطل داخل العمل يتم إطلاق عليه وصف (النموذجى) فى إشارة إلى مدى إخلاصه ووفائه .
ويعتمد العمل الأدبى على عنصر التخيل، ويشمل التخيل فى الرواية بجانب شخصية المجنونة بعض التفاصيل التى تربط بين البطل وأصدقائه، وتتسم بعض التفاصيل المتخيلة بعنصر الطرافة، فعندما يخاطبه صديقه (سمعت أنك تأكل صحابك) فإنه يرد (ليس هناك أخف من الارانب.) ثم يستغرق الكاتب فى وصف الموقف المتخيل (وأغمض عينيه وذبحه وسلخه سريعا فلابد ان تسلخ الارنب سريعا جدا بعد الذبح والا التصق جلده بجسده الي الابد نحيلا جدا كان على المقلاة ولذيذا ايضا طعمه ككلامه….) .
كما يتم توظيف هذه المقاطع المتخيلة للتعبير عن رغبة البطل فى الإنطلاق والتحرر والخروج من حالة الحزن التى يمر بها وهو ما يظهر من خلال المقطع الأتى :ـ
حينما دخل عليه صديقه النموذجي حتى القتل طلب منه أن يقول كل واحد منهما للآخر خبراً سعيداً كاذباً كل يوم ليحتملا الحياة.
– اشتريت شقة صغيرة امبارح.
– وأنا خطبت بنت جميلة.
– انهيت الرواية واقتربت من كتابة سيناريو الفيلم.
– وأنا سأسافر غدا إيطاليا لمدة أسبوع.
وتعد المقارنات من الملامح المتميزة فى رواية (المجنونة …(رحلة للدانمارك وبلاد أخري ) ويظهر ذلك تحديداً فى الموضع الذى يستعرض خلاله الكاتب تيمة (العرى / التعرى) وذلك بقوله (كان عرياً مختلفاً تماماً عن عري طفل جارته المدلل هناك في الفرنساوي كان عارياً على الدوام بين يديها في البلكونة تجلس طوال النهار تحدثه وتداعب عرية وتسب له أباه الغائب وتصنع منه زوجاً ، كان دائماً يسمعها من خلف شباكه ويفتح عينيه ليسمعها ويرى طفلها في السقف معلقاً وعاري ينظر له بمؤخرته ويشكو له المحمر منها قرصات أمه في لحظات معينة في حوارها معه … كان عرياً مختلفاً بالتأكيد عن عري رمضان هبيلة الذي ظل يجوب الشوارع عارياً يطلب ” سوجارة ” حتى صار عرية مألوفاً لدى عيون المارة وحينما كان مندساً داخل جلباب أبيض نظيف استغرب الجميع من منظره ولم يعرفوا أبداً ذلك الميت بعد ان ارتدي كفنه ) ومن الملاحظ أن النماذج المعروضة فى المقطع السابق تتنوع على نحو واضح لتشمل ( رجل ـ إمرأة ـ طفل) ، كما تتنوع الدلالات الخاصة بعملية التعرى ذاتها (الجنس ـ التواصل الأسرى ـ الفقر) ، كما تكشف هذه المقارنات عن بعض تفاصيل العالم المحيط ببطل العمل الأدبى .
وتبقى فى النهاية ملاحظة سريعة تتعلق بتوظيف الكاتب لتفصيلة معينة، تتمثل فى المقاطع الغنائية الخاصة بالمطرب المصرى الراحل (صالح عبد الحى) والتى يستمع اليها الأصدقاء داخل المسكن فى ختام الرواية، وهو الأمر الذى يتكرر فى مسلسل (الخواجة عبد القادر)، إذ تم توظيف اغانى المطرب نفسه للتعبير عن تطور العلاقة بين كل من (هربرت / عبد القادر) والفتاة الصعيدية ” زينب “.