حينما طالعت منذ عدة أيام المانشيت الرئيسي لجريدة الأهرام يبشرنا بأن اللجان النوعية بالبرلمان بدأت مناقشة مشروع قانون جديد لإدارة وتشغيل المحال العامة، قدمه ستون نائباً بالتنسيق مع الاتحاد العام للغرف التجارية، وكان دافعهم في هذا أن القانون الحالي صدر في الخمسينيات، وأصبح لا يواكب التطورات الاقتصادية!!.. ساعتها تملكتني الدهشة، فمن ناحية سألت نفسي عما أشاروا إليه من تطورات اقتصادية؟!.. ومن ناحية أخرى تأكد لدي أن نوابنا في ذات الوادي الذي تقطنه حكومتنا بعيداً عن وادينا، وأنهم داخل البرلمان يمثلون أنفسهم وجميع الأطراف إلا الشعب، وهو من أتى بهم للجلوس على تلك المقاعد النيابية لتمثيله في الرقابة والتشريع، لتمثيله هو وليس الحكومة أو الاتحاد العام للغرف التجارية أو غيرهما.
هل حقاً ونحن نعيش دور الانعقاد الثاني من الفصل التشريعي الأول لبرلمان افترضناه برلمان ثورة نستشعره برلماننا نحن؟!.. برلمان الناس؟!.. لا وبكل قوة.. فقد كنا ننتظر أن يعمل هؤلاء النواب لتأسيس منهج جديد يأخذ البرلمان المصري إلى مصاف برلمانات الدول الديمقراطية الكبرى، وهو في هذا لا يحتاج إلا أن يمارس صلاحياته التي أقرها الدستور، وتعارفت عليها الحياة النيابية عبر تاريخها الطويل محلياً ودولياً، وواضعاً في اعتباره ترتيب الأولويات قياساً على نبض الشارع، وتفعيلاً لحس سياسي من البديهي أن يتمتع به كل من يتصدر مشهد العمل النيابي كأحد أهم مقومات نجاحه داخل البرلمان، خاصة وأن الدولة جميعها تحتاج لتفاعل المواطن العادي معها، وهو ما لن يحدث إلا بتحفيزه وخلق الدافع داخله بما يوجه سلوكه إيجابياً في هذا الاتجاه.
وهنا يأتي السؤال.. كيف لنواب البرلمان.. بل للدولة جميعها أن تخلق هذا الدافع داخل المواطن المصري؟.. الإجابة ماسلو، إبراهام ماسلو، عالم النفس الأمريكي الشهير الذي قام بصياغة نظرية فريدة ومتميزة في علم النفس، وركز فيها بشكل أساسي على مقومات التحفيز للإنسان، أي إنسان، فربط بين احتياجات الإنسان والدوافع التي تشكل سلوكه، ولخص هذه الاحتياجات في هرم من خمس مستويات متصاعدة من القاع إلى القمة، بما يعني أنه كلما توافرت احتياجاته في المستوى الأقل تولد لديه الدافع بما يحرك سلوكه إيجابياً نحو تحقيق طموحاته في المستوى الأعلى، وهكذا حتى يصل إلى قمة الهرم، وهو ما يمكن معه تصنيفنا جميعاً إلى خمس مستويات مقابلة، فيقف منا من يقف عند المستوى الخامس الأدنى، ويجتهد منا من يجتهد فيحقق مستويات أعلى وصولاً إلى القمة، كل على قدر استطاعته، وقبلها على قدر ارتفاع منحنى التحفيز داخله.
ولا يمثل المستوى الخامس الأدنى أو قاعدة الهرم في نظرية ماسلو إلا احتياجات الإنسان الطبيعية الأساسية مثل المأكل والمشرب والملبس والتحرر من الألم وغيرها من الحاجات التي تدعم بقاءه البيولوجي بشكل مباشر، وأعلاه مباشرة يأتي المستوى الرابع بعنوانه الرئيسي المتمثل في الإحساس بالأمن والأمان واستقرار الأوضاع الراهنة والحماية من أية تقلبات قد تعصف بها، فإذا تحقق للإنسان هذا وذاك كان طبيعياً أن يطمح إلى المستوى الثالث في هرم ماسلو فيبدأ في التفكير في الحب والانتماء فيشكلان توجهاً اجتماعياً داخله يدفعه إلى الزواج وتكوين أسرة وإقامة علاقات اجتماعية أكثر تفاعلاً مع الآخرين بما فيها من الانضمام إلى عضوية تشكيلات جماعية منظمة يمارس فيها أنشطة تشعره بالألفة وسط بيئة اجتماعية مناسبة.
ويتلخص المستوى الثاني في تقدير الإنسان لذاته وانتظار التقدير من الآخرين في نفس الوقت، فتجده هنا يهتم أول ما يهتم بالسمعة الحسنة والنجاح والوضع الاجتماعي المرموق والشهرة والمجد وما إلى ذلك، ويعلو عنده هنا احترامه وتقديره لذاته عما ينتظره منهما من الآخرين، فإذا سار الإنسان رحلته الطويلة هذه بنجاح وصل إلى المستوى الأول، قمة الهرم، متطلعاً وقتها إلى تحقيق طموحات كبرى وحاجات عليا لا يستشعر الإنسان الحاجة إليها إلا بعد الوصول إلى إشباع كاف من احتياجاته الأدنى السابق الإشارة إليها، حيث يستخدم كل قدراته وإمكانياته وخبراته ومواهبه التي تحصل عليها في السابق في سبيل الجلوس على قمة الهرم مستشعراً تحقيق الذات في أبهى صوره.
هل يصل جميعنا إلى قمة الهرم؟.. لا بكل تأكيد، ولكن علينا جميعاً الاجتهاد، التحسين المستمر وصولاً إلى الأفضل، فإذا تحقق الأفضل تطلعنا إلى الأفضل، وهكذا، وعلينا وعلى الآخرين في كافة مواقع المسئولية في حياتنا بشكل عام، مهنية كانت أو إنسانية، وفي كافة اتجاهاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، علينا أن نعمل جميعاً على خلق الدوافع الإيجابية لدى الآخرين، خاصة وإن كانوا تابعين، أو موضع مسئوليتنا، وهو ما لن يحدث إلا بتحفيزهم، وبشكل علمي حتى نرد الأمور إلى أصولها بعيداً عن أي اجتهادات عشوائية، وبشرط أن تخلص نوايا الجميع لله وللوطن وللناس، وهو ما لا يزال موضع الشك لدينا.. هل سمع نوابنا أو حكومتنا عن ماسلو؟!.. مشكلة نوابنا وغيرهم في مواقع المسئولية بالدولة أنهم لا يعلمون، بل أنهم لا يعلمون أنهم لا يعلمون، وقمة المعرفة أن تعرف أولاً أنك لا تعرف.