جسد يزهو بأنه إنسان و آخر يتدثر فى اللفائف التى تشبه لفائف المومياء ، علمونا عندما كنا صغار أننا عورة ، صوتنا و صورتنا و هيئتنا عورة ، من رأسنا لإخمص قدمينا عورة ، علمونا أننا فتنة يجب أن تغطى و تتلحف بالعادات و الفهم الخاطئ للنصوص فصدقناهم .
قبل سنين يتخطى عددها نصف عمرى عندما كنت طفلة ذات ضفيرة تتخطى براءتها حاجز الزمن و قفص العادات ، حاول كل من حولى أن يرغبنى فى “الحجاب” و يمرره لى فى كأس حلو من الوعود و كأنه السبيل الوحيد للإستقامة ، لم أكن أدرك وقتها أنه لا أحد يستطيع أن يحدد موعداً للإستقامة مع نفسه و أن ما نلبسه لا دخل له بمدى استقامتنا على الإطلاق ، الكثير من القصص التى من شأنها أن ترغبنى فى ارتداء الحجاب كانت تنتقل من أفواه من حولى بلذة غريبة و كأنها حرفة مقدسة نقلت قداستها تلك إلى أوردتى حتى تشربتها و صرت أجزع و أخجل من ضفيرتى البريئة تلك ، فخلعت صفولتى المنكسرة و وضعت مكانها حجاباً يغطى عورتى المضفرة ، أتذكر يومها ابتسامة أمى ذات الوجه الأبيض الدائرى الصبوح ، التى اعتدت عند مطالعة صورها القديمة عندما كانت فى العشرينات من عمرها أن أنبهر بذوقها و ملابسها و شعرها المسدول فى رفق و ألق فوق كتفيها الجميلين ، لن أنكر أن الطفلة ذات الأربعة عشر ربيعاً وافقت بإرادة كاملة على التخلى عن أن تمتلك فى يوم من الأيام صورة كتلك الصور ، لكن هذه الإرادة كانت مشوبة بخيال منتهك من التقديس الذى حول العادات إلى عبادات ، بعد سنتين أو أكثر قليلاً من فرحتى بإرتداء الحجاب و بملابسى الجديدة ، صارت ملامحى لا تشبهنى كلما ارتديته لكن المجتمع دائماً ما يعنفنا على تغيير قراراتنا المتعلقة بالعادات المقدسة وهماً و تعديلها و كأنه لا مجال للرجوع إلى الخلف مهما كلف الأمر ، لكن هذه الغربة التى نشئت بينى و بين الحجاب سرعان ما اختفت و تحول لإحدى عاداتى اليومية التى لم أعد ألحظ وجودها ، أما كل ما تلى ذلك فكان أكبر من تلك العادة و من غيرها من العادات التى ألصقها بى المجتمع ، صاحبنى شعور يتملكنى طوال الوقت فى الرغبة فى المشى وحيدة إلا من نفسى أناقشها و أسئلها ثم أعود من مصاحبتى لذاتى تلك لأقيم الحفائر و أعلن التنقيب داخل كتب التراث بحثاً عن الإجابات التى تصلح للأسئلة الدائرية التى يلفها المجتمع حول رقابنا ، كنت كلما وجدت ما يفزعنى أدركت كم أشبه كل تلك الإنكسارات و الهزائم التى تحملها كتب التراث ، ثم تخلقت الإجابات بداخلى كجنين طال المخاض به خشية المجتمع ، لكنى كنت دوماً أرجئ الصدام المجتمعى هذا و أتحجج بينى و بين نفسى و أعلن هذه الحجج بصوت واثق لكنه يرتعش من الداخل فكنت دائماً ما أقول أننى لا أرتدى الحجاب لأسباب دينية فأنا لا أعتبره فرضاً دينيناً على الإطلاق و قد كتبت عدة مقالات أفند فيها رأيي هذا لكننى أعتبره موروثاً ثقافياً و هذا كل ما فى الأمر ، لكن الحقيقة كانت مجتزأة من سياقها دوماً فانا لم أكن اتمسك به كموروث انما كنت أحجب وراءه الصراعات الممكنة التى سيضعنى المجتمع فيها إذا ما خلعته خاصةً تلك المتعلقة بطفليَّ ” أربعة عيون عسلية ” هى كل ما أملك و هى من تهبنى الحياة و القوة و الصلابة ، بعد الكثير من الوقت و ملايين من الأفكار قررت أن أدرب تلك ” العيون العسلية و القلوب الطازجة ” على النقاش و الحرية و القدرة و الإرادة التى لا يمكن لأى إعتبار أن يهزمها مهما كان هذا الإعتبار إعتباراً محبوباً ، قررت أن أتسق مع ذاتى و قناعاتى أخيراً و خلعت الحجاب و توقفت عن الإتساق مع المجتمع الذى لا يتسق معى فى كثير من الأشياء على كل حال فما الضير إذن لو زادت خلافاتى معه و مع ما يحمل من تراث خلافاً جديد .
المقال يعبر عن رأي الكاتبة ولا يعبر عن رأي الموقع