نقلًا عن البوابة
للمرة الثالثة يتحدث الرئيس عبد الفتاح السيسى عن تجديد الخطاب الدينى، فعلها أول مرة فى الاحتفال بذكرى المولد النبوى فى العام ٢٠١٤، وأعاد التأكيد عليها فى احتفال ٢٠١٥، وها هو يعود الى ما قاله فى احتفال ٢٠١٦.
عامان مرا على دعوته إذن، ولا أعتقد أن عودته لحديثه الأول معناها أن ما طلبه تحقق، وأن من طالبهم بالتجديد نجحوا فيما أراده، وكان هذا طبيعيا بعد أن تحولت معركة تجديد الخطاب الدينى _ وهى معركة بالفعل _ الى ما يشبه الفرح البلدى، كل فرقة تريد التأكيد للرئيس على أنها من تعمل وتجتهد وتنجز، وفى طريقها الى ذلك تزيح الفرقة الأخرى وتقلل من جهودها وتسخر منها، لا فرق فى ذلك بين مؤسسة الأزهر ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء، وهى المؤسسات التى توجه لها الرئيس برغبته ومراده.
نرشح لك : محمد الباز يكتب : احترس من البلاعة
فى العامين الماضيين حاول وزير الأوقاف محمد مختار جمعة وهو رجل حسن النية ومخلص تماما فيما يفعله أن ينفرد بالساحة، ليس فقط بتجديد الخطاب ولكن بإعلان الحرب على الاخوان والسلفيين، وهو ما لم يعجب شيخ الأزهر ورجاله، ولعل الحرب التى نشبت بينهما على خلفية الخطبة الموحدة دليل كاف على أن الجهود لم تكن موحدة، بل كان هناك تربص، ورغبة من كل فريق فى تغليب وجهة نظره، وإثبات أنه على حق دون الأخرين.
الأزهر الشريف بمؤسساته ورجاله تعاملوا على أنهم الأحق بتجديد الاخطاب والأولى بكل ما يخصه، أغلقوا على أنفسهم الباب، وفكروا وحدهم، مدعين أنهم قاموا بتحديث مناهج الدراسة وأنجزوا دراسات عديدة، لم يعرف أحد عنها شيئا، وتفرغ شيخ الأزهر للدفاع عن رجاله الذين اتهموا بأنهم إخوان أو يناصرون الإرهابية، رافضا أن يقترب منهم أحد ولو بكلمة واحدة تسوءهم.
دار الإفتاء عملت بما رأت أنه صحيح، اجتهدت من خلال مرصد الفتاوى المتطرفة، وتتبعت تنظيم داعش فيما يفعله ويقوله، وأصدرت بيانات ودراسات وأصدرت مجلة ترد بها على مجلة دابق التى يصدرها التنظيم الارهابى، واجتهدت كذلك من خلال مرصد الاسلاموفوبيا، ورغم نشاطها الهائل، الا أنها فى كل ما فعلته لم تكن سوى رد فعل، فلم تقدم رؤى خاصة أو أفكار منفردة فيما يخص الخطاب، بل كانت فى كثير مما طرحته ضعيفة ومتهافتة.
لا أريد أن أكون ظالما لمن يعملون فى هذه المؤسسات، فتراجعنا فى معركة تجديد الخطاب الدينى ليس مسئوليتهم وحدهم، يقع على الرئيس عبء كبير فيما جرى، فعلى ما يبدو أن ما أراده لم يكن واضحا من اللحظة الأولى، ولذلك فهمت كل فرقة ما يطلبه الرئيس طبقا لهواها أو ما يتفق مع أفكارها ومصالحها.
فى احتفالية هذا العام ٢٠١٦ كان الرئيس واضحا الى حد كبير فيما يريده بخصوص الخطاب الدينى. ويمكن أن نرصد ذلك فى نقاط محددة، من خلال كلمته التى كان يوجهها لعلماء الأمة بأكثر مما كان يوجهها لعامة الناس.
أولا: الرسول صلى الله عليه وسلم قاد ثورة هائلة من التحولات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ونأمل فى أن نواجه قضايانا بنفس الجرأة والشجاعة التى تحلى بها النبى الكريم، وهى دعوة إلى أن يكون فعل تجديد الخطاب الدينى ثورى بشكل عام وشامل، وليس خطابا ترقيعيا من خلال كلام إنشائى عقيم.
ثانيا: نعانى من انفصال خطابنا الدينى عن جوهر الاسلام ذاته، وعن احتياجات عصرنا الحالى، وهو ما يجعلنا فى احتياج لتحديث الخطاب الدينى، وفى هذا الكلام إدانة مباشرة لما قام به علماء الدين خلال السنوات الماضية، فالخطاب الذى يقدمونه للناس ينفصل عن الحياة، ثم أن الرئيس نقل المعركة خطوة واسعة جدا، فهو لا يتحدث من الآن عن تجديد الخطاب الدينى، بل عن تحديثه.
فارق هائل بين التجديد والتحديث، التجديد ينصرف الى خطاب قديم لا يناسب عصرنا، والأولى بنا أن نتركه على حاله باعتباره تاريخا لا يصلح لنا ولا نستفيد منه شيئا على الاطلاق، بل إن استحضاره ولو عن طريق تجديده يمكن أن يكون معوقا لنا ومعطلا لأى تقدم من أى نوع، أما التحديث فهو التعامل مع النص الدينى بشكل مباشر، وتفسيره من جديد نزولا على مقتضيات العصر واحتياجات المعاصرين، وكل ما أرجوه أن يكون علماء الدين الذين توجه لهم السيسى بحديثه هذه المرة فهموا مقصده من التحديث، لأنهم للإسف الشديد سيعملون بنفس الآليات القديمة، ولن يكون هناك أى جديد.
ثالثا: ما أذهب اليه هنا قصده الرئيس السيسى بشكل مباشر وواضح ودون لبس عندما قال إننا مطالبون بوقفة مع النفس نستلهمها من سيرة النبى الكريم، فلنواجه بجرأة وشجاعة ما نعلم جميعا أنه دخيل على ديننا الحنيف، فنصوبه الى صحيح الاسلام وأصل رسالة الله سبحانه وتعالى للبشر، وقفة مع النفس نرفض فيها ما يعادى العقل، ويعادى الانسانية، نقوم بتحديث التفسيرات التى اجتهد فيها من سبقونا، فنحن نجتهد بدورنا لنصنع السلام داخل بلادنا بالإيمان والعلم.
هل يريد من يتصدون لمعركة الخطاب الدينى اكثر من هذا وضوحا، ما نريده هو تصويب واستبعاد بجرأة وشجاعة كل ما لا يناسب عصرنا، لنؤكد أننا قادرون على مسايرة العصر، ولن يكون هذا الا بخطاب جديد، ينظر للخطاب القديم على أنه تاريخ، ما أنتجه السابقون يناسب عصرهم تماما، أما ما يناسبنا فنحن أدرى به، لمن سبق حق السبق والتقدير، لكن ليس لهم أن يحكمونا ويتحكموا فينا من قبورهم.
رابعا: المنطقى فى المعركة ضد الارهاب أن يكون لها شقان، شق بالسلاح ضد من يرفعون السلاح فى وجوهنا، وشق بالعقل حتى نجفف منابع الارهاب، والمنطقى أيضاً ان تتوقف معركة السلاح فى لحظة معينة، ويستكملها العقل، لكن يبدو ان الرئيس يدرك أن العقل تأخر كثيراً فى القيام بدوره، ولذلك أكد على مواجهة الارهاب بالوسائل العسكرية والأمنية، على أن يستكملها العقل، ورغم ان الفكرة ناضجة جدا الا أنها تحمل إدانة واضحة لمن تأخروا فى عملهم.
كانت المعركة العسكرية تقصد من حملوا السلاح، والمعركة الفكرية تستهدف قطع الطريق على الوافدين الجدد الذين يحملون سلاحا جديدا لمواجهة الدولة، نجحت المعركة العسكرية الى حد كبير، لكن عطلها وفود جدد من المتطرفين الى أرض القتال، وهو ما يعنى أن من يقفون على ثغور العقل لم يقوموا بواجبهم كما ينبغى.
خامسا: وضع الرئيس السيسى يده على الأزمة التى يعانى منها من يقومون على تجديد الخطاب الدينى، عندما قال ان تحديث الخطاب ليس ترفا أو رفاهية بل ضرورة، فما حدث بالفعل خلال العامين الماضيين أن من تصدوا لهذه المهمة تعاملوا مع الأمر بمنطق الترف والرفاهية، لم يدركوا أن المعركة حقيقية، والمواجهة حاسمة، وأن السلاح وحده لا يكفى، بل لابد ان يجاوره العقل، فبدا الجميع وكأنهم موظفين تم تكليفهم بمهمة ثقيلة على كواهلهم، فلم نر إبداعا ولا تفكيرا خارج الصندوق، ولا جرأة ولا شجاعة فى المواجهة، وهو ما لابد أن يتداركه الجميع.
سادسا: حتى هذه اللحظة كان الرئيس السيسى يتحدث عن معركة الخطاب الدينى بشكل مجرد تماما، لكنه أراد أن يحدد وجوه الخطأ والعيب والنقص، فأشار الى أنه تحدث مع وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة، وأكد له أن تصويب الخطاب الدينى لا يجب أن يمس الثوابت، بل هو دعوة لاستخدام مفردات العصر ومقتضياته والاجتهاد من أجل تحديث التفسيرات والتوصل إلى الفهم الحقيقى للدين حتى يمكن التغلب على حالة التشرذم التى تعانى منها المجتمعات، ولا سيما فى مصر.
يشير الرئيس هنا بلا مواربة أن وزير الأوقاف وهو أحد المكلفين فى معركة الخطاب لم يفهم مقصد الرئيس على الشكل الصحيح، ولذلك فهو يعيد عليه وعلى الجميع ما أراده، لعل أحد يسمع أو يدرك أو يستوعب المهمة الصعبة التى يجب أن يقوموا بتبعاتها.
وهنا لابد من التوقف عندما ما قاله الرئيس من أنه أكد على عدم المساس بالثوابت، فهناك من علماء الدين من يأخذون من هذه الكلمة حجة لإجهاض تحديث الخطاب الدينى، فالثوابت التى لابد أن نتفق عليها تنصرف الى العقائد والعبادات، هذه لا أحد يستطيع أن يقترب منها أحد، فهى ثابتة لا يصح الدين الا بها، لكن المعاملات ليست ثابتة، وحتى نصوص القرآن والحديث التى تتعلق بها ليست ثابتة.
وهنا يمكن أن يكون لدينا اشتباك عابر يمكن أن نعتبره اختبارا لقدرة من يتصدون لتحديث الخطاب على المضى فيه بشجاعة وجرأة.
لابد أن نفرق بالأساس بين النص الذى هو مقدس لا يستطيع أحد أن يقترب منه ولا يغيره أو يبدله لأنه من عند الله، والخطاب الذى هو ناتج عن تفاعل المفسرين والفقهاء مع هذا النص، وهو خطاب ليس مقدسا على الاطلاق، بل يمكن أن يخضع للتغيير والتبديل والتحديث.
لدينا نص قرآنى صريح فى سورة النساء يقول ” وللذكر مثل حظ الإثنيين” هذه آية قرآنية، لا يمكن أن يطالب أحد بتغيير نصها، فنقول أنها يجب أن تكون ” وللذكر مثل حظ الأنثى”، لكن التحديث يمكن أن ينصرف الى الحكم الذى ترتبه الآية الكريمة، فنحتفظ بالنص كما هو، لكن نغير الحكم، بأن يصدر قانون يساوى بين الذكر والأنثى فى الميراث.
عندما نزلت هذه الآية كان المجتمع غير جاهز أو قابل للمساواة بين الرجل و المرأة فى الميراث، كانت المرأة نفسها جزءا من الميراث الذى يرثه الرجل، ولم يكن من العقل أو المنطق أو حكمة التشريع تجاوز الواقع والقفز عليه، لكن الآن أصبحت العلاقات الاجتماعية تحتم أن تكون هناك مساواة، فالتقسيم على أساس للذكر مثل حظ الانثيين فيه ظلم فادح، وهو ظلم لا يرضى الله سبحانه وتعالى به.
وهنا يأتى السؤال الذى تحدد الإجابة عليه مدى جديتنا فى تحديث الخطاب الدينى وجعله يتناسب مع احتياجاتنا وضرورات تطورنا: هل يمكن أن يصدر قانون مدعوم برؤية شرعية وفقهية من علماء الأزهر بمساواة المرأة والرجل فى الميراث؟ لو صدر هذا القانون يمكن أن نعترف أن هناك جدية فى تحديث الخطاب الدينى، ولو لم يصدر فاعتبروا كل ما يحدث لعبا بالعقول ونصبا عليها، فلا أحد يرغب فى تحديث الخطاب أو الاقتراب منه أساسا.
وإذا قلت وهل الأزمة فى الخطاب تقتصر فقط على قضية الميراث والمساواة بين الرجل والمرأة فيه؟
سأقول لك: هذا مجرد مثال فقط، سؤال لو نجحنا فى الإجابة عليه، فسنفتح الباب لقضايا أخرى، ومسائل ملحة أخرى، لكن ماذا نفعل ونحن طول الوقت فى حاجة الى دليل على ان هناك من يريد ثورة حقيقية وتحديثا حقيقيا، وليس مجرد ضجيج بلا طحن؟
سابعا: قفز الرئيس عبد الفتاح السيسى قفزة أخرى، عندما أعرب عن حاجتنا الى تشكيل لجنة من كبار علماء الدين والاجتماع وعلم النفس للتباحث فى نقاط القوة والضعف التى يعانى منها المجتمع المصرى، لتقوم بتنقية النصوص وصياغة خارطة طريق تتضمن المناسبات الدينية المختلفة على مدار العام، وتضع خطة محكمة على مدى خمس سنوات تهدف الى ترسيخ الفهم الدينى الصحيح على مستوى الجمهورية لكافة محافظاتها.
وأقول أن هذه قفزة مهمة فى معركة تحديث الخطاب الدينى، لأننا ولسنوات طويلة عانينا من سطوة ونفوذ المؤسسة الدينية التى يرى رجالها أنهم وحدهم المؤهلون لتجديد الخطاب الدينى، وأن غيرهم دخلاء لا يليق بهم أن يتواجدوا معهم على مائدة واحدة، بل سخروا من كل من حاول ان يساهم فى هذا الملف، و سجنوهم وشوهوا صورتهم.
الآن يطالب الرئيس بألا ينفرد علماء الدين بمهمة تحديث الخطاب الدينى، ليس لأنهم فشلوا فقط، ولكن لأن المنطق يقول أن الخطاب ليس دينا فقط، ولكنه ابن المجتمع ولابد ان يشترك الجميع فى تحديثه، وأقترح ان تتسع المساحة لتضم علماء سياسة واقتصاد وأدباء لديهم خيال، لأن المهمة ثقيلة وصعبة .
وأقترح أيضاً أن يقوم الرئيس بنفسه بتشكيل هذه اللجنة بقرار جمهورى، ولا يترك المسألة لرجال المؤسسة الدينية وحدهم يفعلون ذلك، لأنهم لن يتقدموا الى الأمام ولو خطوة وحدها، لو أراد الرئيس نتيجة فعليه ألا يتأخر فى تشكيل هذه اللجنة، ووضع آليات لعملها ومحاسبتها، أقول ذلك قبل أن يخسر الرئيس معركته فى تحديث الخطاب الدينى، وهى حتما خسارة فادحة.