خالد عبد الهادي- نقلًا عن أخبار الأدب
هذا فصل من كتاب “محمد حسنين هيكل: معالم علي طريق طويل” للباحث الأردني خالد عبد الهادي. الكتاب الذي يصدر قريبا يتضمن سيرة إنسانية وصحفية للأستاذ الذي اختار بنفسه عنوانه قبل الرحيل.
في أكتوبر2004 سألت الأستاذ هيكل: “هل ذرفت دموعك يوما سواء علي المستوي الشخصي أو المستوي العام؟
أجاب الأستاذ: لعلي لا أبكي.. يعني.. لكن في بعض الأحيان النادرة جدا بكيت فيها لسبب عام:
المرة الأولى
نكبة فلسطين
كانت المرة الأولي يوم الأربعاء 20 أكتوبر سنة1948 وأنا أري الجيش المصري يستعد للانسحاب من مدينة المجدل (شمال شرقي مدينة غزة والتي تبعد عنها 25 كلم).
وقفت علي سفح الهضبة العالية التي تقبع فوقها غزة.
وما زلت أذكر منظري في تلك الساعة، واقفا تحت شجرة علي طريق غزة – دير سنيد (قرية فلسطينية شمال شرقي مدينة غزة والتي تبعد عنها 12 كلم).
ولم أشعر إلا وأنا أغطي عيني بيدي باكيا، أنهنه، وأذرف الدموع كأنها جمرات نار.
(استولت القوات الإسرائيلية علي تقاطع الطرق ما بين “مستعمرة نجبا Kibbutz Negba” (تقع علي الطريق بين المجدل وبيت جبرين) وحتي “مستعمرة نتساريم Netzarim” (غرب قطاع غزة)، وهو ما يعني احتلال شمال النقب، وانقسام الجيش المصري لقسمين معزول كل منهما عن الآخر:
قسم في مدينة بيت لحم بقيادة القائمقام أحمد عبد العزيز، والقسم الثاني في مدينة المجدل علي الطريق الساحلي بقيادة اللواء أحمد المواوي).
المرة الثانية
حريق القاهرة
كانت المرة الثانية يوم السبت 26 يناير 1952 . يوم أحرقت القاهرة.
كنت في مكتبي في جريدة “أخبار اليوم” وخرجت فور سماعي خبر اشتعال القاهرة بالنار.. إلي شارع فؤاد (26 يوليو حاليا) وإلي شارع سليمان باشا (طلعت حرب حاليا) وإلي شارع قصر النيل وإلي شارع إبراهيم باشا (الجمهورية حاليا).
كانت ألسنة اللهب في كل مكان، وكانت الفوضي هي التي تحكم وتملك.
الشوارع مغطاة بالرماد وبقطع الخشب التي ما زالت تشتعل والنار تسري فيها بعد أن أحالتها إلي فحم.
وعاد إليّ نفس الشعور الذي أحسست به في غزة.
حريق القاهرة كان البرهان الساطع لنهاية النظام الملكي كله، لكن لا التيار الليبرالي الممثل بحزب الأغلبية وقتها الوفد وباقي أحزاب القصر (الهيئة السعدية، الأحرار الدستوريين، الكتلة الوفدية، والحزب الوطني)، ولا التيار الديني الممثل بحركة الإخوان المسلمين، ولا التيار الشيوعي الممثل بالأحزاب الماركسية الثلاث، جميعهم كانوا من الوهن والضعف من أن يفكروا بالاستيلاء علي الحكم وقلب النظام، كلهم توجسوا خيفة أمام المسؤولية والتصدي للشرعية، جميعهم ارتاعوا من الملك وجبنوا أمام قوة الاحتلال!
توقف الأستاذ هيكل لثوان قبل أن يكمل: الحقيقة كل القوي كانت قد تآكلت، فالتيار الليبرالي تآكل بعد قتله مؤسس حركة الإخوان المسلمين (حسن البنا)، والتيار الإسلامي تآكل بنكثه لعهوده، فمن حركة دعوية لنظام خاص قام بعمليات اغتيال وتفجير وترويع، والتيار الشيوعي تآكل بموقفه مما كان يجري في فلسطين فضلا عن ترؤس أحزابه كلها يهود، متحولا من آمال منشودة بعدل اجتماعي إلي ظنون شاردة بالترحيب بنشأة إسرائيل!
(كان الأستاذ هيكل في الساعة الحادية عشرة صباحا داخل مبني جريدة أخبار اليوم لاجتماع إداري مع الأخوين أمين (علي ومصطفي)، وأثناء الاجتماع دق جرس التليفون وكان المتصل الأستاذ أحمد حسين (زعيم مصر الفتاة)، متحدثا مع الأستاذ هيكل: “قرأنا لك تغطي عواصم الدنيا شرقا وغربا، فانزل الآن إلي عاصمة مصر وشوف بنفسك”!
ثم دق جرس التليفون مرة ثانية، وكان المتحدث هو إدجار جلاد (باشا) صاحب جريدة الجورنال ديجيبت Le journal d’Egypte تصدر باللغة الفرنسية)، وهو من أبرز رجال القصر الملكي في تلك الأيام، مستفسرا من الأستاذ هيكل: “هل لديك علم بما يجري في شوارع البلد؟”، وقال له الأستاذ: “إننا الآن نتابع ويظهر أن هناك بدايات عنف”، وكان تعليق جلاد (باشا): “يظهر أن المسألة خطيرة.. خطيرة جدا”.
ونزل الأستاذ هيكل من مبني جريدة أخبار اليوم إلي شارع فؤاد ومعه زميله وصديقه الأستاذ محمد يوسف المصور الأشهر في ذلك الوقت.
وكانت المشاهد التي تنتظرهما مما لا يخطر علي بال أو علي خيال.
فبعد الانتفاضة الشعبية، انقض السواد الأعظم يعرب عن نفسه، بزيادة اللهيب اتقادا، وبالسطو والسرقة.
حريق القاهرة كان تذمرا من الذين لا يملكون شيئا، ضد الذين يستحوذون وحدهم علي حق الحياة.
ولم يكن غريبا أن يتجمع هياج الحشود، علي دور السينما، وعلي الفنادق الكبري، وعلي المحلات الأنيقة في وسط المدينة.
(شاهد الأستاذ هيكل فتاة تسرق مضرب جولف)، ذلك كله كان طبيعيا، فقد كان انفعال الأكثرية علي محاولات إفقارها!
وهكذا أتاحت لهما الظروف متابعة حريق القاهرة من اللهب إلي الرماد، وكان بين من صادفهم الأستاذ هيكل وسط الدخان البكباشي جمال عبد الناصر. فقد نزل مع غيره من الضباط إلي شوارع العاصمة المشتعلة بالنار بعد أن عجز البوليس عن السيطرة علي الموقف، ومن ثم اقتضت الأمور نزول الجيش.
المرة الثالثة
النكسة
كانت المرة الثالثة يوم الجمعة 9 يونيو 1967، كان يوما طويلا مع الرئيس جمال عبد الناصر، بدأ من السابعة صباحا حتي السادسة مساء. وكان الهدف الأساسي من المقابلة هو مشروع خطاب التنحي الذي سيقدمه للأمة بعد الأحداث المروعة التي غطت وجه منطقة الشرق الأوسط كلها بالنار والدم من 5 يونيو ولأيام عصيبة تالية!
في الدقيقة الأخيرة من اليوم كان سؤال ناصر الأخير عن علاقتي بالسيد زكريا محيي الدين، وقلت له إنني لا أنوي تكرار ما قمت به معه، ولكني قابل تكليفه لي لمعرفتي بدقة الظروف حتي يتمكن زكريا من تسلم مسؤولياته.
ونهضنا نحن الاثنان.
وتصافحنا.
ولمحت دمعة في عينيه لأول مرة في حياتي. واستدرت خارجا من غرفة مكتبه، فلم أكن أريده أن يري دمعة أخري في عيني!
سألته بعد أن توقف: “ما قرأته عن تلك الفترة – نكسة 67 -، يشي بأن كل شاعر ومثقف وأديب وراوي وقصاص تمزق وأصيب بالانكسار، إلا أنت، فما السر وراء ذلك؟
أجاب الأستاذ: “الرئيس ناصر وزوجتي هدايت كانوا كذلك، في حالة استغراب من تماسكي وصلابتي. أنا وقتها كان في ذهني فيلم شاهدته ربما سنة 1956 بعنوان “سوف أبكي غدا I’ll »ry Tomorrow بطولة سوزان هيواردSusan Hayward وريتشارد كونتي کichard »onte – إخراج دانيال مان Daniel Mann، وقد فاقت إيراداته وقتها 7 ملايين دولار) وقصة الفيلم ليس لها علاقة بالحرب أو الصراع لكن العنوان جذبني، لاحظ بأنه كان عندي موقف في هذه الحرب وهو معلن، وقد استشهد به وزير خارجية إسرائيل وقتها أبا إيبان في مجلس الأمن، وهو أنني قلت إن قرار قفل خليج العقبة يعني الحرب، وقتها أيضا الاتحاد الاشتراكي قلب الدنيا واتهمني كالعادة بأني أثبط الروح المعنوية!
ومع ذلك، تستطيع أن تقول إنني كالباقي أصبت بحالة اكتئاب، ولكن وأنت تحتل منصب تحرير صحيفة، وأنت مسئول عن ركن الفكرة في ما تمثله ثورة 23 يوليو، وتنشر جريدة صباح كل يوم، وتكتب مقالا أسبوعيا، نعم فوجئت بما جري وحجمه، ولكن هل تنكمش وتقع وتنهار؟ بينما تري الناس تخرج وتتحدي وترفض نتيجة الصراع لحظتها، فلابد حينها أن تقف معها وتبشر بأمل جديد، خصوصا بأن هناك أسباب حقيقية لهذا الأمل الجديد.
ربما أنني كنت من الداخل ممزقا، لكن ما يثير حيرتي، كمية هذا الجلد للذات وللضمير المصري والقوة المصرية والإرادة المصرية لا لزوم له، فكل أمة من الأمم واجهت كارثة ومحنة من فرنسا إلي اليابان، لكن في وقت الأزمات تتحدد فيها مصائر أمم وشعوب لا تملك أن تترك نفسك للانفعالات، نعم كنت متماسكا، لأن هناك مقادير..
المرة الرابعة
نهاية عصر
كانت المرة الرابعة في أثناء اللحظة الرهيبة التي وقفت فيها بجوار فراش جمال عبد الناصر وهو يجود بالنفس الأخير.
لم أبكه لحظتها!
بل بكيته يوم تشييعه يوم الخميس 1 أكتوبر 1970، لأنه كان رفيقا حميما وسيظل ظني به أنه ليس فقط إنسانا عظيما وإنما تاريخ عظيم أيضا.
وأتممت أياما بعد “الرحيل” لا أقدر علي التصديق، وأياما أخري أعقبتها لم أتمكن من التخيل.
هذه هي سفرته الأولي التي يذهب فيها ولا أكون في رفقته!
ثلاثة أيام انقضت بين لحظة الرحيل حتي هجع في مثواه الأخير.. كفنا ابيض طاهر فوق فرشة من الرمال في قبر أقيم علي عجل خلف مسجد بناه بنفسه!
بدأت الجنازة من مجلس قيادة الثورة القديم علي النيل – قرب فندق شيراتون الجزيرة -، وما أن طالعت النعش ولاحت لي حقيقة أن جمال عبد الناصر في جوف هذا الصندوق لم أتمكن من مغالبة نفسي.. وأجهشت بالبكاء نأيا بنفسي خارج الصفوف رغم أني كنت المرافق الرسمي لرئيس وزراء الاتحاد السوفيتي أليكسي كوسيغين Alexei Kosygin كان الأستاذ هيكل وزيرا للإعلام وقتها.
المرة الخامسة
مبادرة القدس
كانت المرة الخامسة يوم السبت 19 نوفمبر 1977، يوم وصول الرئيس أنور السادات إلي القدس مساء، كنت قد غادرت القاهرة إلي الإسكندرية (بلاج عايدة بالمنتزه) لأبتعد عن مركز الحوادث منتهزا فرصة إجازة عيد الأضحي، لكن ما كان يجري له تأثير المغناطيس في قوة جذبة مهما حاولت الابتعاد، وهكذا وجدتني علي شاطئ ستانلي في الإسكندرية وأمامي طوال الوقت جهاز راديو أنتقل بمؤشره بين إذاعات العالم.
وأعترف علي استحياء أنني لم أتمالك نفسي حين سمعت إذاعة القاهرة تتحدث عن ترتيبات، وتقول أول ما تقول إن سربا من مقاتلات سلاح الجو الإسرائيلي سوف يخرج للقاء طائرة الرئيس السادات.
لم أتمالك نفسي ولا أعرف لماذا لحظتها، فإذا أنا أغطي عيني بكفي وأجهش في بكاء، ولم أستطع ضبط مشاعري إلا عندما أحسست بيد تمس كتفي في رفق والتفت لأجد طفلي الصغير (حسن) يرقبني بعينين تملؤهما الدموع والدهشة شاعرا أن شيئا ألم بي، ولكن مداركه لا تسعفه بتفسير لهذا الذي لم يعهده فيّ من قبل (أنبته والدته السيدة هدايت ملتمسة منه أن يعود إلي الكابينة).
توقف لبرهة، ثم استرسل في حديثه: هناك من يقفز فوق التاريخ والصراعات والبشر والاقتصاد والسياسة والعالم والاستراتيجية بطريقة مرفوضة وغير مطمئنة.
وهناك جزء من العالم لا يهمه أمرنا في شيء راح يصفق له، وهناك جزء من العالم العربي يراقب ببلاهة وكأن الأمر لا يعنيه، والجزء الآخر (مصر وغيرها) مضلل في كل ما يحدث، كُتمت عنه الحقائق، كان انفعالي شديدا، وتدفق الاحتدام دموعا، دموع الإخفاق للأسف الشديد!
المرة السادسة
النوستالجيا
كانت المرة السادسة يوم الاثنين 28 سبتمبر 1981، كنت في سجن طره، جميعنا تقريبا عزم علي أن نحيي ذكري ارتحال الرئيس جمال عبد الناصر، كنوع من التصدي لكل ما كان جاريا. كان الرئيس السادات أيامها في بداية النهاية، في الصباح سرت إشاعة بأنهم يجهزون معتقل جبل الطور في صحراء سيناء لترحيلنا إليه قبل المغيب.
في المساء تزاحم الخطباء يرثون الرئيس ناصر خلال قضبان سجن السادات.
كنت منذ بداية اليوم أشعر أن هناك دمعة مترددة تغشي باب العين، لكني لم أذرفها، ربما لأننا كنا نحيي الذكري كنوع من التصدي لا من الألم.
في لحظة من لحظات هذا اليوم تذكرت تفاصيل اليوم الأخير من حياة ناصر، وتذكرت آخر كلماته في آخر مكالمة تليفونية سمعت فيها صوته: “أنا بحاجة لاستراحة طويلة”.. وآخر لمحة ألقيتها علي جثمانه، هي كلها تفاصيل لا تفارق الذاكرة ولا القلب لا في أيام الراحة ولا في أيام الأسي.
لكن الذي لفت نظري ليلتها هو ذلك الاندفاع الذي حرض الجميع بإلحاح علي أن يتصدوا لكل ما كان يجتازه الوطن من أحوال بذكري ناصر. فقد كان السجن يجمع رموز لقوي وطنية كثيرة ينتسب بعضها لما قبل ثورة يوليو، وينتسب الآخرون للثورة نفسها. وكان يجمع كثيرين ممن تخاصموا مع ناصر، أو تنازع معهم، أو اختلطت أجواء الريبة علاقته بهم وعلاقتهم به والالتباس وربما المصادمات:
كان هناك إخوان مسلمون اشتبك معهم ناصر، وتنازعوا معه لحد محاولة اغتياله وقتله.
وهناك وفديون ينتسبوا للحزب الذي أدان ناصر بأنه قد انتزع تأثيره التاريخي علي الشعب.
وهناك يساريون زجوا للسجون في عهد ناصر، وها هم يدخلونه بعد رحيله دفاعا عن أفكاره.
وكان هناك آخرون ينتسبون لمدارس فكرية أخري ولأجيال متعاقبة.
لذلك أصغيت لكلماتهم في الإشادة بمآثر الرئيس ناصر بحفاوة، وكان المشترك ما بين ما تقوله كل هذه المدارس الفكرية المتباينة هو الإدراك بأن الأمة تاهت كثيرا مع اختفاء ناصر، وكان اتفاق هذه الرموز في سجن واحد هو إحدي علامات هذا الافتقاد. عندها أحسست أن هناك سوء فهم تاريخيا قد جري بين هذه القوي كلها وبينها وبين ناصر، وأن هذا قد بدد فرصا علي الأمة والوطن لا تُعوض. وربما أن هذه القوي استخلصت، وناصر حي وقيادته موجودة، قيمة حضوره وقيمة ما كان يمثله.
المرة السابعة
دموع بلا رثاء!
كانت المرة السابعة يوم الثلاثاء 6 أكتوبر 1981، ساعة أن أبلغني العقيد محمود غنام (مأمور سجن طره) والعقيد صلاح شلبي (ضابط مباحث) نبأ اغتيال الرئيس أنور السادات (ربما بقصد معرفة رد الفعل!)..
استوضحت، وعندها لم أستطع أن أذكر إلا أنه كان صديقا، وإذا بالدموع في عيني تجري..
لقد عشت معه عشرين عاما كأصدقاء، أصغر أبنائي (حسن).. أنا أعرف كيف كان ضعف السادات تجاهه.
(نشر الأستاذ هيكل في كتابه الصادر عن مركز الأهرام للترجمة والنشر سنة 1993 “حرب الثلاثين سنة: أكتوبر 73 السلاح والسياسة”، وثيقة تحمل شعار الدولة بها رؤوس موضوعات كتبها أثناء جلسة التحضير السياسي والإعلامي لحرب أكتوبر في استراحة كنج مريوط، ويلاحظ وجود عبارة “حسن هيكل” بخط يد الرئيس السادات!
ففي صباح يوم الأربعاء 5 سبتمبر 1973، كان الأستاذ هيكل علي موعد مع الرئيس السادات في استراحة الرئاسة في برج العرب (ساحل مصر الشمالي)، ومن ثم دعاه الرئيس إلي الركوب بجواره في السيارة (طراز مرسيدس)، وراح يقودها بنفسه في اتجاه استراحة كنج مريوط.
طلب الأستاذ هيكل أوراقا ليكتب عليها ولو مجرد إشارات لما يمكن أن تسفر عنه المناقشات (مجموعة شواغل سياسية وإعلامية كانت لا تزال حائرة في فكر الرئيس السادات)، وطلب الرئيس السادات حقيبة يده وكانت في سيارة الحراسة التي تتبع سيارة الرئيس. وأخرج منها مجموعة أوراق تحمل شعار الدولة واسم الرئيس. والغريب أنه لم يكن مع الأستاذ هيكل قلم (من النوادر!)، وأخرج الرئيس السادات قلما وراح يجربه علي أول ورقة من مجموعة الأوراق التي أخرجها، واختار أن يجرب قلمه بكتابة اسم أصغر أبناء الأستاذ (حسن هيكل)، وكان أقربهم جميعا إلي الرئيس السادات!
المرة الثامنة
امتنان
المرة الثامنة حاولت جاهدا أن أحبس دموعي طيلة الأيام التي أعقبت نشر مقالي: “الاستئذان في الانصراف” (الثلاثاء 30 سبتمبر والأربعاء 1 أكتوبر 2003)!
فقد فوجئت بتدفق المقالات في الأعمدة والزوايا الصحفية داخل مصر وخارجها من أصدقاء وزملاء مهنة وغيرهم، ممن أعرفهم وممن لم أتشرف بلقائهم ومعرفتهم، كالسيل المنهمر من فيضان المشاعر تطالبني بالعدول عن قرار الانصراف، وسأظل وفيا لجميلهم ما بقيت.
المرة التاسعة
لفحات الأحزان
وعلي المستوي الشخصي كان استفساري؟
أجاب الأستاذ: الأقرب إلي ذاكرتي الآن هو غياب شقيقي الوحيد المهندس فوزي (1)، رغم تجاربي الكثيرة مع لسعات الأسي، هناك من يتخيل أن ما يتبقي من المغادرين عنا في حياتنا هو بكاؤنا في وداعهم أو ذكرياتنا معهم!
ثم كان أن استضافت الإعلامية مني الشاذلي يوم الخميس 7 أبريل 2016 الدكتور المهندس أحمد هيكل (الابن الأوسط)، وتحدث عن ظروف إصابته بورم خبيث من النوع العدواني Aggressive، وقد وصف الدكتور أحمد رد فعل والده بعد أن فاتحه بالأمر بالغريب!
كان الأستاذ هيكل يومها في برقاش، لاستقبال بعض الزوار، وما أن فرغ من عمله (في حدود الثانية ظهرا)، حتي صعد إلي غرفة نومه، فتوجه إليه الدكتور أحمد – الذي كانت مشاعره ملتبسة بين خشية من مفاتحته في أمر إصابته بالمرض وخوفا من ردة فعله.
وربما كان قول الأديب والسياسي الألماني يوهان جوته يومها في ذهن رجل الأعمال الدكتور أحمد هيكل: “المواجهة هي أقصر الطرق للوصول إلي الهدف”. وهكذا استجمع أمره.. وفاتح الأستاذ هيكل!
وفاضت الأحاسيس الإنسانية والحنان الأبوي المتحررتان من كل عقل.. فإذا عيني الأستاذ هيكل في حالة انهمار كهبوب العواصف، ودموعه تنافس الأمطار في انسكابها!
وقد عدت لمجموعة أوراقي، ووجدت بأن الأستاذ هيكل قد غادر إلي الولايات المتحدة (ولاية بوسطن حيث يتواجد بها أفضل مستشفيات لعلاج مرض السرطان) يوم الأربعاء 13 فبراير 2008، متغيبا عن افتتاح الدورة التدريبية التي تنظمها مؤسسة هيكل للصحافة تحت عنوان “الصحافة تاريخ سائل”، والتي استضافت خلالها المؤرخ البريطاني السير أليستر هورن Sir Alistair Horne!لكن عناوين جميع الصحف كانت تتحدث عن أزمة صحية طارئة ألمت بالأستاذ هيكل (قصور في الدورة الدموية)!
وهو ما يثبت بأن الأستاذ هيكل قادر علي ترك مسافة بينه وبين أقرب المقربين له، تطبيقا للمثل الأمريكي الشهير: “He plays his cards close to his chest هو يلعب وأوراقه قرب صدره”!