نقلا عن المصري اليوم
شاهدت الرئيس «الأسبق» حسنى مبارك، كما يحلو للبعض أن يُطلق عليه، و«المخلوع» كما أراه، فهو التوصيف الأكثر دقة، مثلما نُطلق على مرسى «المعزول»، لأن الأول خُلع بإرادة الشعب والثانى عُزل أيضا بإرادة الشعب، وصفة الأسبق يستحقها فقط من يغادر الكرسي طواعية.
بعيدا عن التوصيف الذى يفتح لا محالة أبواب الاختلاف والخلاف، فإننى حتى كتابة هذه السطور، شاهدت فى أفلام المهرجان مبارك «الأب» مرتين، لم يكن الأمر متعلقا بإبداء الرأى السياسى، ولكن الزمن الواقعى والمرحلة التى تتطلب الإشارة إلى ما قبل ثورة «ثورة يناير» هى التى فرضت حضوره، فى الأولى «يوم للستات» لكاملة أبو ذكرى، المعروض فى قسم «ليال عربية» والثانية «نسور صغيرة» لمحمد رشاد المشارك داخل المسابقة الرسمية، الغريب أن هناك من صفق بمجرد رؤيته، وهو فى الحقيقة ما حدث فى مصر عند عرض الفيلم أيضا فى افتتاح مهرجان القاهرة.
تحليل التصفيق، هل هو تعبير عن استحسان أم وحشة أم استغراب؟ أم لعله حنين للدولار الذى تضاعف ثمنه عن زمن مبارك ثلات مرات؟ أم أنه تأمل لحال الدنيا ونحن نرى من كان يمتلك الدنيا، صار الآن محاطا بأسوار داخل المستشفى العسكرى بالمعادى لا يستطيع أن يغادره؟ التصفيق بالفعل موقف يستحق المتابعة والدراسة اجتماعيا ونفسيا واقتصاديا قبل أن أقول سياسيا، فلقد كانت عشرات إن لم تكن مئات الأفلام التسجيلية ترصد وتوثق لحظات خلعه عن الحكم، وتحظى بالتصفيق من الجمهور، وكثير من السخرية على ما آل إليه حال الطاغية، الآن هل هناك تغير نوعى فى المشاعر؟ لا يمكن بالطبع رصده فى مقال قبل أن تتم بالفعل دراسة علمية متأنية.
ليس هذا بالطبع موضوعنا، ولكن السينما هى الهدف، والفيلم المصرى «نسور صغيرة» أول إخراج لمحمد رشاد يستحق منا أن نتأمله، الشريط يقع فى إطار الرؤية التسجيلية، ولكن المخرج منحه مذاق الدراما، حيث يرصد محمد رشاد بنعومة وألق وصدق، وقبل كل ذلك بإبداع وعصرية ينطق بها الشريط السينمائى، ويتسلل إليك ما هو أعمق من كل ذلك فهو أقرب إلى محاولة توثيق لعقل ومشاعر هذا الجيل الذى عاش ثورة 25 يناير بعد أن أجهضوا أحلامها وهو يشعر أنه لم يفعل شيئا، جيل يعيش الإحباط ولا يعثر حتى على بصيص من أمل، فهل كان جيل الآباء أسعد حظا.
على الفور تجد أن الخيطين المتوازيين يلتقيان وأيضا يشتبكان ويتشابكان معا ليرسما أمامنا معالم لـ«نسور صغيرة»، نقطة الانطلاق هى محمد رشاد المخرج وكاتب السيناريو فى لقاء مع أبيه نكتشف فى نهاية الأمر أنه من وحى الخيال ولكن اللقاء الحقيقى هو ما سوف نشاهده بعد ذلك، إنه الرجل المكافح الذى عشق مهنة المكواة، وكان حلمه أن يمسكها بيديه وكأنه يعزف على آلة موسيقية يعشقها، وهو ما حرص المخرج على تأكيده فى اللقطات، وعندما يسأله ابنه: لماذا؟ يقول إن الحب ليس له قواعد ولا لماذا، فهو لم يكمل دراسته ليس لأن الأهل فرضوا عليه ذلك لضائقة مالية عاشتها الأسرة، ولكن لأنه أراد أن يكون مكوجيا وهذا يكفى، إنه الحب عندما يحدث مع مهنة أو إنسان أو مكان ليس من حق أحد أن يسأل، هكذا جاءت كلمة الأب البسيط وكأنها حكمة من إنسان عاش مائة عام وقرأ ملايين الصفحات.
الرجل كان يعلم مثل كل الآباء أن دوره المنوط به تنفيذه هو أن يربى أبناءه ويتابعهم، ولهذا رفض أن يعمل بالخارج حتى يكبروا أمام عينيه، إلا أنه مثل أغلب الآباء لم يكن له أى دور سياسى، بينما الابن الذى قرر فجأة أن ينتقل من الإسكندرية إلى القاهرة حتى يستطيع أن يحقق حلمه بأن يصبح مخرجا، فى البداية يقدم لقطة عامة تماثيل الموديلات فى أحد المحال بمدينة الإسكندرية حيث المولد والنشأة وبداية الطموح، نرى التماثيل عارية فى انتظار أن ترتدى الملابس المعروضة للزبائن وكأنها معادل موضوعى للمخرج الذى رفض أن يكون تمثالا ولا حتى ممثلا يرتدى ما يريدون له أن يفعله وينطق بأفكار سابقة التجهيز.
إن حكايته مثل أغلب المخرجين الذين تبدأ علاقتهم مع السينما بالرغبة فى التمثيل وتنتهى بأن يكتشفوا أن من يحرك كل الخيوط هو من يقف خلف الكاميرا وليس أمامها، وهكذا تأتى اللقطات الأخيرة عندما نرى من يقف خلف الكاميرا متأملا التماثيل التى ارتدت الملابس فى محل بالقاهرة فلم تكن تلك أبدا قناعاته، الخط العام هو الجيل الأسبق الذى عاش فى الحياة السياسية معبرا عن نفسه فى مرحلة السبعينيات، وكيف أنه ثار فى انتفاضة يناير 77 وضد كامب ديفيد 79 ودفع الثمن بالدخول للمعتقلات، هذا الرصد يستعيره من والدى صديقيه، أبوه لم يكن لديه أبدا موقف سياسى يناضل ويعبر عنه، فهو لم يتعود أن يتورط فى الشأن العام، ويكتشف المخرج فى النهاية أن الكل شارك فى الضياع بل ساهم فيه سواء كان يقصد أم لا، فلم تحقق لا أحلام الآباء ولا الأبناء ومن عاش فى المعتقل ودفع الثمن من حريته، ومن تغرب بعيدا عن الأسرة مثل من عاش فى الوطن فى الحالتين دفعته ظروف الحياة للاغتراب عن الأسرة وكأنه يستعيد قول الشاعر: «الزهور التى ذوت ظامئات.. الزهور التى ذوت فى الماء».
المخرج حرص على أن يأخذ من أبطاله أمام الكاميرا كل ما لديهم من صدق وتلقائية وكان مدركا تماما أن الانسياب فى الحوار حتى لو ذهب به إلى مناطق أبعد عن العمق الذى أراده فإنها من فرط صدقها تصبح هى العمق وتساوى الفيلم، ويبقى «نسور صغيرة» العنوان. إنها جمعية يشارك فيها مراهقون تسعى لكى تزرع بداخلهم الإحساس بالشأن العام، وهو ما يشعرنا أن النسور الصغيرة لم وربما لن تكبر.
اللغة السينمائية التى قدمها المخرج الشاب تحافظ على روح الشجن وإحساس التلقائية والطفولة، هناك دائما لمحة ساخرة تغلف الفيلم، بالتأكيد المخرج لم يسع إلى فرضها على سياق التتابع ولا على من يتابع آراءهم، ولكنه استطاع أن يضعهم جميعا على الموجة، ومن هنا يبزغ اسم المونتير المبدع سيمون الهبر، كما أن هناك ألقا واضحا لعنصرى الموسيقى تونى أوفرووتر والتصوير محمد الحديدى، أسماء على الأقل بالنسبة لى أتابعها لأول مرة، وأرى أن لديها رؤية عصرية وعميقة فى التعبير السينمائى، الفيلم يقع فى إطار الإنتاج المستقل من شركة صغيرة تحمل اسم «حصالة» تقودها المخرجة الشابة هالة لطفى بأموال محدودة وبخيال يتجاوز كل الحدود.
ويبقى أننا صرنا نشاهد أفلامنا وجزء كبير منها للجيل الجديد من خلال إطلالة مهرجان «دبى» الذى ينتقى ويبحث عن المختلف والصادق، ولم تكن المرة الأولى، وبقدر سعادتى بالفيلم وبنجاح فريق عمل مهرجان دبى أن يقفز فوق كل الحواجز ويصل إلى أفلامنا التى لا نعرف عنها شيئا، أتساءل: لماذا أصبحنا كسالى، ولا نعرف حتى ما الذى نملكه فى أيدينا؟
صمويل جاكسون النجم الأسود هو عنوان هذه الدورة، دائما ما يحرص المهرجان على استقطاب نجم هوليوودى لمنحه جائزة «إنجاز العمر» مع فنان عربى وآخر من آسيا لتصبح الإطلالة عالمية، استوقفنى أن جاكسون رفض أو بدقة أكثر تحفظ على أن يدلى بدلوه فى ترامب، وذلك فى المؤتمر الصحفى الذى عُقد بعد التكريم، قائلا إنه ليس ناشطا سياسيا ومهمته هى فقط إسعاد الناس.
لا أظنها سوى تعبير عن قناعة وليست هروبا من الإفصاح عن الرأى، فلا يمكن تصور أن القسط الأكبر من نجوم هوليوود بعد صعود دونالد ترامب سوف يشعرون بأنهم تورطوا فى رأيهم أو أن عليهم الآن أن يتراجعوا عما انفلت منهم من أقوال، فلم يفعلوها مثلاً مع جورج بوش الابن الذى ناله منها القسط الأكبر.
إنها قناعات يجب أن تُحترم، لدينا فى مصر قدر من القسوة فى إبعاد الفنان أو الإعلامى الذى يعلو صوته برأيه لو خالف الصوت الواحد المسيطر على المشهد الآن، فى العادة لا نعتبرها حرية فكرية، بقدر ما يصنف أنه من الأعداء بل ينفذ أجندة الآخرين، هل الفنان مهمته هى إسعاد الناس كما قال صمويل جاكسون؟ بالتأكيد نعم، ولكن أليس من حق الفنان أيضا أن تكون له مواقفه السياسية التى قد تتناقض بهامش ما يصغر أو يكبر مع الدولة؟ بالتأكيد أيضا نعم، مع الأسف فى عالمنا العربى، وبالطبع مصر، لم ندرك بعد أهمية أن نفتح كل الأبواب، حتى لمن يختلف سياسيا من حقه أن يظل داخل الدائرة يبدع ويعلو صوته بالرأى.