نصل الآن للحديث عن المكان في فيلم (الكيت كات)، والذي يعد لوحده شخصية محركة وفاعلة، وليس فقط مجرد خلفية جامدة للأحداث والشخصيات، فالمكان يكتسب أهمية كبيرة في فيلم عبد السيد هذا. إن »الكيت كات« كفيلم أو »مالك الحزين« كرواية يعدان بمثابة سيمفونية بصرية عن المكان وعن البشر داخل هذا المكان، داخل تلك الحواري الضيقة، والتي تحاصر الحركة وتطبق على الأنفاس، وبالتالي يكتسب الديكور أهمية كبيرة أيضاً. ولم يكن اعتباطا عندما أهدى عبد السيد فيلمه هذا لصديقه الفنان إنسي أبو سيف. فقد نجح فنان الديكور أبو سيف في إبداع هندسة المناظر وبناء ديكور يصل إلى أعلى درجات الإيهام بالتماثل مع الواقع، وذلك من خلال وعي كامل وإدراك حقيقي لطبيعة المكان. لقد كانت لمسات أبو سيف واضحة بالذات في شقة الشيخ حسني وشقة فاطمة حيث كان الديكور يجسد بشكل ملحوظ ما يسمى بالوظيفة الدرامية للديكور والإكسسوار، فالجدران تحاصر ساكنيها وتدفعهم إلى الهرب والفكاك منها. كذلك الحجرة الفقيرة المهجورة التي يلتقي فيها يوسف وفاطمة.
نرشح لك : حسن حداد يكتب: من ذاكرة السينما.. الكيت كات (4-3)
فقد عبرت هذه الحجرة، بقطع الأثاث المهشم الذي يعلوه التراب، عبرت بشكل بليغ عن تلك الفوضى وذلك العجز الجنسي والوضع النفسي المحبط الذي يتملك يوسف، خصوصاً عندما تصورهما الكاميرا من أعلى بين ركام الأثاث المهمل في لقطة ذكية ومعبرة لتبدو الحجرة الضيقة كما لو أنها واسعة عليهما وذلك من تأثير الحالة النفسية المتفائلة. ومن الطبيعي تحت ظل ديكور كهذا أن يكون مدير التصوير الفنان محسن أحمد قد استفاد كثيراً من تلك المناظر وديكوراتها، بل وساعدته ـ أيضاً ـ على تجسيد الحالات النفسية للشخصيات عن طريق توزيع الإضاءة واستخدام زوايا للتصوير ساهمت في نقل مشاعر وأحاسيس شخصياته إلى المتفرج، وبالتالي ليس من الغريب أننا استمتعنا بكادرات جمالية إبداعية معبرة وقوية، ارتقت بمستوى الفيلم الفني والدرامي.
لقد حظي فيلم (الكيت كات) باهتمام نقدي وجماهيري فاق كل تصور، حيث استمر عرضه الجماهيري أكثر من عشرين أسبوعاً. هذا بالإضافة إلى الاحتفاء والقدير النقدي في الصحافة والمهرجانات. فقد اشترك الفيلم في عدة مهرجانات محلية ودولية، ففي مهرجان الإسكندرية حصل على جوائز أفضل ممثل وسيناريو وتصوير وديكور. وفي مهرجان دمشق الدولي حصل على جائزة السيف الذهبي مناصفة مع فيلم كوبي وجائزة أفضل ممثل. أما مهرجان جمعية الفيلم فقد أهداه ثماني جوائز وهي: أفضل فيلم، أفضل إخراج، أفضل سيناريو، أفضل ممثل، أفضل مونتاج، أفضل موسيقى، أفضل ديكور، أفضل ملصق إعلاني.
ولم يأتي هذا الاحتفاء، وبهذا الشكل المذهل، إلا لأن الفيلم يستحق كل هذا فعلاً. فقد تضافرت جميع العناصر والطاقات الفنية في الفيلم (تمثيل، تصوير، مونتاج، ديكور، موسيقى) تحت قيادة مايسترو ماهر وسينمائي فنان، استطاع حقاً، من خلال ثلاثة أفلام فقط، أن يقف في مقدمة الصفوف مع كبار المخرجين المصريين. إننا ، مع المخرج المبدع داود عبد السيد، أمام حالة فنية خاصة في السينما المصرية.