معركة مصيرية مثل مواجهة الإرهاب والفكر المتطرف، من المفترض أن تستخدم فيها الدولة كل أسلحتها المشروعة، بما فيها القوى الناعمة – والتى أصبحت اسمًا على مُسمًا بالفعل – وألا يقتصر الأمر على الحلول الأمنية فقط – مع إدراكنا التام لأهميتها وتقديرنا لما تبذله الأجهزة الأمنية من مجهود – وإذا كانت أفكار مثل تطوير مناهج التعليم وتجديد الخطاب الدينى، قد تم طرحها بالفعل، فإنها لم تتخطَّ حتى هذه اللحظة حدود التصريحات والنوايا الطيبة، ولم نرَ لها أى أثر على أرض الواقع، وهو الامر الذى لا يختلف كثيرًا عن تعامل الدولة مع الفن.
فالدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها الرسمية تعانى من حالة فصام غريبة تجاه الفن والفكر والإبداع، فنرى خطابًا رسميًا يتحدث عن القوى الناعمة التى تملكها مصر ويفتخر بها ويؤكد على دورها المهم فى توعية المجتمع وتثقيفه بينما لا نرى على أرض الواقع سوى ممارسات وأفعال تسير فى اتجاه معاكس لتلك التصريحات، فهل الدولة التى تحبس أديبًا وتحاكم فنانيها ومبدعيها بتهمة ازدراء الأديان من الممكن أن تقتنع بأهمية الفن ودوره فى محاربة الإرهاب ؟ بل هل الدولة التى ما زال لديها تُهم مثل ازدراء الأديان تكون جادة أصلاً فى مواجهة التطرف ؟
كل هذا يقودنا للحديث عن السينما، وهى الصناعة التى تضررت كثيرًا بما مرت به البلاد من أحداث سياسية وأزمات اقتصادية فى السنوات الأخيرة، فتقلص الإنتاج وهجرها أغلب نجومها ورحلوا إلى شاشات التلفزيون، حتى وصل بها الحال بأن أصبحت مُستباحة وبلا صاحب، لدرجة أن يقوم أحد رجال الأعمال بإنتاج فيلم من بطولته ويشارك به فى المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائى !
أزمة معقدة تمر بها السينما، والدولة لا تهتم وتعتقد أن لديها ما يكفى من أزمات أهم بكثير من مثل هذه التفاهات، وهو وضع لا يجعلنا نستغرب كثيرًا عندما نكتشف أن كل هذا الكم من الأفلام التى تم إنتاجها وعالجت أو ناقشت قضية الإرهاب والتطرف الدينى – عندما كانت السينما بحال أفضل- أغلبها دون المستوى ومحدود التأثير ولم تطرح أفكارًا أو تقدم حلولاً ولم تضف جديدًا للمشاهدين، فمن يشاهدها لن يفهم لماذا يتحول البعض إلى إرهابيين ؟ أو ما هى الأسباب التى تدعوهم إلى ذلك ؟ ومتى وكيف ولماذا يحدث هذا التحول فى حياتهم ؟
كلها أسئلة غير مطروحة لأننا أمام أفلام تقول فقط، هؤلاء إرهابيون؛ إذن فهم أشرار. فلنقضِ عليهم فى المشهد الأخير من الفيلم حتى ينتصر الخير ويسعد المشاهدون بالنهاية.
أفلامٌ كثيرة ينطبق عليها هذا الوصف مثل فيلمي نادية الجندى (أمن دولة) و (الإرهاب) والاثنان للمخرج نادر جلال، والأخير للغرابة يحمل اسم (الإرهاب) ورغم ذلك نجده يتكلم عن تنظيم هو أقرب للتشكيل العصابى منه إلى الجماعات الإرهابية ! ولا أعتقد سيبقى فى ذاكرة كل من سيشاهد هذا الفيلم، سوى صراخ فاروق الفيشاوى الهيستيرى فى مشهد النهاية وهو يسأل نادية الجندى (فين البطارخ يا عصمت؟)
نفس الأمر ينطبق على فيلمى خالد يوسف (دكان شحاتة) و (حين ميسرة) والأخير فيلم عن العشوائيات، أراد خالد يوسف أن يناقش من خلاله كل مشكلات مصر فخرج الفيلم عشوائيًا أكثر من العشوائيات نفسها، أما فيلم مثل (الناجون من النار) للمخرج على عبد الخالق فلم يكتفِ بتواضع مستواه الفنى، ولكنه واجه مشكلات فى عرضه سينمائيًا وتقريبا لم يشاهده أحد حتى بعد عرضه على الفضائيات.
وبعيدًا عن السطحية فى تناول الموضوع، فهناك مشكلة أكبر تعانى منها هذه الأفلام وهى التنميط، أحد أمراض السينما المصرية المزمنة، بأن ينجح ممثل فى دور ما – أو حتى لا ينجح ويشتهر فقط بأدائه – فيتم اختياره دائمًا لنفس الدور كنوع من الاستسهال، وهو الأمر الذى تكرر مع الفنان ضياء الميرغنى الذى قام بدور الارهابى فى فيلم (السفارة فى العمارة) مع عادل إمام ثم عاد ليقدم دور الجار المسلم المتعصب فى فيلم (حسن ومرقص) مع عادل إمام أيضًا، ونفس الأمر مع الممثل الشاب حمزة العيلي الذى قدم دور المتطرف دينيًا أكثر من مرة آخرهم فى مسلسل (مأمون وشركاه)
أما السخرية والتى غالبًا ما تأتى فى غير موضعها، فعندما زادت عن الحد تسببت فى نفور الكثيرين، فتلك الصورة الكاريكاتورية الساخرة التى تُصَدرها أغلب الأفلام عن الإسلاميين أو المتدينين عمومًا جعلت البعض من البسطاء يتعاطف معهم، ويصدق ما يقوله شيوخهم من أنها سخرية من الدين نفسه. وهى السلبيات التى نتمنى تداركها فى المستقبل حتى لا يتسبب العمل الفنى فى زيادة التطرف بدلاً من محاربته.
أما الجانب المضىء من الصورة وهو الأفلام التى طرحت هذه القضية بشكل يحترم عقلية المشاهد، فلولا وجود أسماء مثل يوسف شاهين ولينين الرملى ووحيد حامد ربما ما وجدنا منها فيلمًا واحدًا. فالمخرج الكبير يوسف شاهين طرح فى فيلمه (المصير) أفكارًا مهمة عن الإرهاب وكيف ينمو ويجد بيئته المناسبة كلما زاد الجهل، وكيف تتحالف السلطة المستبدة مع الإرهاب وترعاه وفى بعض الأحيان تصنعه لتحارب به معارضيها، فالجهل والاستبداد يحتاج كليهما إلى الآخر حتى يضمن بقاءه ويحتاج الإرهاب إلى كليهما ليخرج من رحِمهما اإلى النور الذى يحوله إلى ظلام بالطبع.
أما المؤلف لينين الرملى ففيلمه (الإرهابى) أثار ضجةً جماهيرية لوجود نجم بحجم عادل إمام فى بطولته، وهو فى هذا الفيلم نجح فى كتابة سيناريو متميز عن الإرهابى (على عبد الظاهر) الهارب من العدالة والذى تجبره ظروفه على البقاء لدى أسرة الدكتور (عبد المنعم )- الفنان صلاح ذو الفقار- دون أن يعرفوا شخصيته الحقيقية، ومن خلأل تعاملهم معه تتغير نظرته إليهم بل تتغير نظرته إلى الحياة كلها، فربما لم يناقش الفيلم قضية الإرهاب بالعمق اللازم ولكنه قدمها من منظور إنسانى رائع، ليس للتعاطف مع الإرهابى ولكن من أجل أن نفهم أن هذا الإرهابى هو فى النهاية مجرد إنسان عادى مثلنا، وغالبًا ما يكون ضحية لظروف معقدة وللبيئة التى ينشأ بها وما تحتويه من أفكار ومفاهيم تحُض على كراهية وتكفير الآخرين ويتحول إلى أداة يستغلها من يتاجرون بالدين بعد أن تركته الدولة فريسةً سهلةً لهم.
وهو نفس المعنى الذى أراد توصيله الكاتب الكبير وحيد حامد فى أفلامه بأكثر من طريقة، ففى فيلم (الإرهاب والكباب) يُدين النظام الذى تسبب فى تحويل مواطنين بسطاء إلى إرهابين محتملين، إحساس جماعى بالتهميش والقهر يسيطر على مجموعة من المواطنين فى مُجمع التحرير تُفجره مشاجرة بين عادل إمام وأحد الموظفين فيلجأون فجأة إلى العنف ويحتجزون رهائن حتى تُنفذ الحكومة مطالبهم، والتى لا يعرفون على وجه التحديد ما هى، ليكتمل المشهد العبثى ويطلبون وجبة كباب، الفيلم كان رسالة تحذير مبكرة إلى السلطة فى وقتها – ولم تفهمها كالعادة – بأن البسطاء إذا لم يعد لديهم ما يبكون عليه سيتحولون إلى قنابل موقوتة تسير على قدمين.
أما فى الفيلم الرائع (دم الغزال) فنرى كيف يتحول (ريشة) الطبال إلى إرهابى وأمير للجماعة فقط من أجل الانتقام من بلطجى المنطقة، الذى ضربه وأهانه أمام الجميع، ويبقى مشهد النهاية عبقريًا عندما تفشل القوة الأمنية فى القضاء على ريشة ويهرب ولا تموت سوى الفتاة المسكينة (حنان)- منى زكى- لنرى ريشة فى النهاية يجلس حرًا طليقًا أمام النيل وفى وضح النهار، فى مشهد يحمل أكثر من دلالة ويؤكد على نفس المعنى الذى تحدثت عنه فى البداية بأن الأمن وحده فقط لن ينجح فى القضاء على الإرهاب.