حاصرتنا مختلف وسائل الإعلام ومعها شبكات التواصل الاجتماعي طوال الأيام الماضية، ولا تزال، بأخبار وتغطيات المعارك الضارية التي دارت في حلب بين قوات الجيش النظامي السوري الموالي لنظام بشار الأسد، وميليشيات المعارضة المسلحة أو ما يطلق عليه الجيش السوري الحر أحد أذرع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، والتى انتهت إلى سيطرةالجيش النظامي السوري على حلب بعد اشتباكات عنيفة راح ضحيتها العديد من المدنيين الذين لا ناقة لهم ولا جمل، وبخلاف آلاف آخرين لا يزال جارياً ترحيلهم من هناك باعتبارهم موالين للمعارضة المسلحة، ومحسوبين عليهم بشكل أو آخر.
ولاحظت أول ما لاحظت، في ردود الأفعال المتعلقة بأزمة حلب، أنها انفعالية بالأساس، وتأخذ جانب طرف من طرفي الأزمة على حساب الآخر، ودون الاهتمام بقراءة الأوضاع بموضوعية، أو محاولة معرفة المعلومات أو الحقائق التي تساعد على وضع النقاط على الحروف، وبالتالي تأتي أحكام الجميع متطرفة في حب هذا أو كره ذاك، وهي عادتنا التاريخية كعرب، ولن نشتريها يوماً، في حين تقوم حسابات الأطراف الأخرى –إقليمية ودولية – من ذوي المصالح المتعلقة بالأزمة، وبالتالي تأتي مواقفها وفقاً لاستراتيجيات موضوعة مسبقاً، أساسها توافر المعلومات، وتحليلها، وتحديثها، وقراءة الأوضاع قراءة علمية، وقياس ردود أفعال الآخرين محل الأزمة، أو هؤلاء من ذوي الصلة بها، فنصل في النهاية إلى حقيقة بكل أسف لا تزال ساطعة سطوع الشمس،ألا وهي، أننا كعرب لا نزال متمسكين راضين بمربع المفعول به في ساحة السياسة الدولية، تاركين مصائرنا بإرادتنا الحرة في يد الآخرين من القوى الإقليمية والدولية، فتظل هي الفاعلة بقوة مهما تغير الزمن أو تطورت أحوال الدنيا، ونكتفي نحنبالاستسلام لإحساس المؤامرة إلى حد الإيمان، فنقنع أنفسنا ما استطعنا بقلة الحيلة حتى ترضى.
نعم، الأزمة السورية متشابكة، ومعقدة، بل وتزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، وهو ما يأتي كنتيجة طبيعية لتعدد الأطراف المتداخلة فيها، كل فقط وفقاً لمصالحه هو، وسعياً نحو تحقيق أكبر المكاسب الممكنة، خاصة وأنها تدخل في حسابات إقليمية قبل أن تكون دولية، وعرقية قبل أن تكون قومية، ودينية قبل أن تكون سياسية، أما الإنسانية، فهي خارج جميع حسابات كل أطراف الأزمة دون استثناء هنا أو آخر هناك، كما أنها خارج حسابات المتفاعلين مع الأزمة من خارجها من الشعوب العربية جميعها، حتى وإن كانت الإنسانية هي ظاهر ما يعبرون عنه في تواصلهم الاجتماعي،وعبر ردود أفعال مبكية مضحكة في نفس الوقت، إن دلت فإنما تدل على تدهورحالة الانفصام الحاد المزمن في الشخصية العربية، وإلا فليفسر لي أحد هؤلاء، كيف بالله عليكم تصل الإنسانية بكم في حلب حد الصراخ على ما يحدث لمدنيين عزل في حين يلفكم الصمت المتزامن في مواجهة شهداء الكنيسة البطرسية بالقاهرة؟!.. كيف تفعلونها بدم بارد؟!.
ولأنني أكرر في كل وقت وحين، أننا في زمن يتطلب وضوح المواقف، بل وحدتها إلى حد الصدمة، أواصل فأؤكد بكل وضوح أن الإنسانية ضحيتكم جميعاً في حلب، ضحية بشار الأسد، حتى وإن رأى أنصاره أن بقاءه من بقاء الدولة، فهو من ذاتسلالة الحكام العرب، ويواصل رسالتهم السادية في التضحية بشعبه من أجل نفسه وذويه، وما آلت إليه سوريا هو أول من يسأل عنه، كما أن مبارك كان ولا يزال وسيظل مسئولاً عما آلت إليه أوضاعنا المتردية حتى الآن، وكما أن صدام والقذافي وعلي عبد الله صالح اغتروا وطغوا وتجبروا على حساب إضعاف دولهم وشعوبهم مما زادها تخلفاً، فكان ما كان في العراق وليبيا واليمن،وعلى الناحية الأخرى، فإن الإنسانية في حلب ضحية التنظيم الدولي للإخوان المسلمين أيضاً، حتى وإن رأى مواليه أن الخلافة الإسلامية هي الحل،فهم من ذاتسلالة الخوارج الأوائل،ويواصلون رسالتهم في إهانة الإسلام يوماً بعد يوم، يجعلون الدين مجرد مطية في سبيل تحقيق أغراض سياسية وشخصية سادية لا تقيم وزناً إلا للذات وذويها أيضاً.
فإذا تحدثنا عن روسيا، أكبر الداعمين لنظام بشار الأسد، فالأمر لا يعدو بالنسبة لها إلا إحدى جولات عودة الروح للدب الروسي، في مواجهة جديدة من مواجهات حرب أقل برودة هذه المرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، العدو الاستراتيجي التاريخي لها،ومعها تأتي إيران بنزعة توسعية شيعية فارسية، وحزب الله الممارس لدوره الموالي قلباً وقالباً لإيران، وهو ليس إلا ذراعاً لها في المنطقة تخوض الحرب عنها بالوكالة كالمعتاد،وتبقى الإنسانية ضحية لهم جميعاً في حلب، وعلى الضفة الأخرى، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر الداعمين للجيش السوري الحر، فالأمر ليس إلا استكمالاً لاستراتيجيتها في عهد أوباما الداعمة على طول الخط للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ومعها تأتي المملكة العربية السعودية بنزعة سلطوية سنية عربية، وإن كان الأمر هنا سياسياً بالدرجة الأولى، فهو لا يخلو من الوجه الاقتصادي بالنسبة لروسيا وأمريكا،وتحديداً فيما يتعلق بتجارة وتطوير أسلحة لا تروج إلا إذا اشتدت أوزار الحروب.
وعن جامعة الدول العربية فحدث هنا ولا حرج، فهي في عهد أحمد أبو الغيط لا تعيش إلا صفحة جديدة في نفس الكتاب المتهالك منذ صدوره في منتصف أربعينيات القرن الماضي، فهي لم تظهر لها يوماً كرامات، ولم تتجاوز ردود أفعالها أبداً مساحة الشجب والاستنكار، هي في مجملها ليست إلاتجلياً للعرب كظاهرة صوتية تراثية تتجدد أصداؤها من جيل إلى جيل، ولعل اعتراف القائمين عليها ومن وراءهم كافة الأنظمة والحكومات العربية، لعل اعترافهم جميعاً بوفاتها إكلينيكياً يكون الفضيلة التي توفر أموالاً وميزانيات طائلة تحتاجها الشعوب العربية، وهي كافة تعاني الآن أزمات اقتصادية طاحنة تهدد استقرار أوضاع الدول النفطية الغنية منها قبل الفقيرة،ولكن من يسمع؟!.. فصوت المخصصات المالية والعينية والمراسم والرحلات المكوكية ومكافآت نهاية الخدمة يبقى دائماً أعلى وأقدر.
ولا يكون الحديث عن مصر دائماً وأبداً إلا ذو شجون، فلا زلنا نتوقع منها الكثير بحكم وزنها العربي والإقليمي، بل والدولي قياساًحتى على عضويتها الحالية في مجلس الأمن، ندرك جميعاً صعوبة المرحلة بما يعطي الأولوية لأوضاعنا الداخلية، وبما يجعلنا نتفهم ونقدر موقف مصر الرسمي من الأزمة السورية في عدم التجاوب مع ضغوط المملكة، حتى تنحو مصر ناحية الموقف السعودي في مواجهة نظام بشار الأسد، ولكننا في ذات الوقت لا نتفهم دعم مصر له بحجة الحفاظ على وحدة سوريا، فما ننتظره من مصر هنا أن تفتح طريقاً ثالثاً للخروج من المأزق،طريقاً يحفظ لسوريا وحدتها، وبحيث يقرر الشعب السوري مصيره من خلال الدفع نحو إجراء تعديل دستوري تعقبه انتخابات رئاسية حرة، وليتم الأمر كله في ظل مجلس مدني انتقالي يختاره السوريون، ويمارس دوره من الآن في اتجاه سياسي مواز لجهود الجيش النظامي السوري في مواجهة المعارضة المسلحة، وبحيث يخرج نظام بشار الأسد والجيش السوري الحر معاً من المعادلة في نفس الوقت، ولا مانع في أن تقوم الأمم المتحدة بدورها الإشرافي هنا.
أما تركيا،راعية الإرهاب والإرهابيين في عهد أردوغان، فقد تراجعت في انتهازية تحسد عليها عن دعم الجيش السوري الحر، وباعت قسم الولاءسمعاً وطاعةفي مقابل حفنة امتيازات على صعيد تحسين العلاقات مع روسيا وإيران، ولكن أبى شرطي تركي كان يعمل في قوات مكافحة الشغب إلا أن يعود بأردوغان إلى الخلف باغتياله السفير الروسي في أنقرة أندريه كارلوف،وذلك قبل يوم واحد من انعقاد اجتماع ثلاثيفي موسكو حول الأزمة السورية يضم وزراء خارجية ودفاع روسيا وإيران وتركيا،الأمر الذي يشكل الآن مأزقاً، بل وضغطاً هائلاً على أردوغان في مواجهة بوتين، كما أنه لابد وأن تكون له تداعياته على الملف السوري،خاصة وأن القاتل أكد فور قيامه بفعلته غدراً،وقبل تصفيته جسدياً،أنها جاءت انتقاماً من القصف الروسي لحلب.. كم من الجرائم إذاً ارتكبت طوال الأيام الماضية باسم حلب؟!.