نقلاً عن البوابة
كنا ننتظر نتيجة التصويت على الاقتراح الذي تقدمت به مصر حول الاستيطان الإسرائيلي إلى مجلس الأمن باعتبارها عضوا فيه عن المجموعة العربية، لكن التصويت لم يأت، جاء قرار آخر بتأجيل الاقتراح، ثم اقتحمتنا معلومات عن اتصال تليفوني جرى بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لم تكن تفاصيله بعيدة عن القرار.
سارع المشككون وطعنوا في الموقف المصري، اتهموا الادارة المصرية بأنها لم تتمسك بموقفها من عمليات الاستيطان، وأنها باعت القضية الفلسطينية، ثم وهذا هو الأهم جعلت من نفسها تابعة للقرار الأمريكي.
نرشح لك : محمد الباز يكتب: ماذا فعل ياسر برهامي ومحمد حسان فى غرفة إعدام عادل حبارة؟
من السهل أن تستسلم لهذه الرؤية، أن تسبح في اتجاه التيار الذي لا يحتكم الى العقل والمنطق، فيهيل التراب على كل ما تفعله الادارة المصرية، سعيا وراء حالة من الانتشاء والعنتريات التي ما قتلت ذبابة.
ما حدث يحتاج الى بعض من التأمل، ولن أتحدث هنا برأيي فقط، بل أسند قلمي على آراء مصادر سياسية ودبلوماسية كانت قريبة من القرار المصري بتقديم الاقتراح المصري حول الاستيطان الإسرائيلي، ثم كانت قريبة بنفس الدرجة من قرار تأجيل طلب التصويت عليه، فهي مصادر ترى بوضوح أن موقف مصر في الحالتين كان هو الأقوى، رغم ما يبدو فيه من تناقض حاد.
كانت مصر قد وزعت مشروع قرار على أعضاء مجلس الأمن ال ١٥ مساء الأربعاء الماضي تدعو فيه الى وقف بناء مستوطنات جديدة، تأسيسا على أنها تنتهك القانون الدولي، على أن يتم التصويت يوم الخميس الماضي،
أشعل القرار المصري النار في أطراف الجميع، وتحركت إسرائيل على مستويين، الأول إعلامي هاجم خلاله مسئولون إسرائيليون مصر هجوما عنيفا، كان أقله أنها تدعم الارهاب، والثاني سياسي ودبلوماسي، حيث تم التواصل مع مسئولين في الادارة الأمريكية الحالية، لكن النتيجة التي فاجأت اسرائيل، وكما أفشى مسئولون أمريكيون أن إدارة الرئيس أوباما كانت تدرس الامتناع عن التصويت، وهو ما كان سيسمح بتمرير مشروع القرار.
أدركت اسرائيل أن تفكير إدارة أوباما بهذه الطريقة لم يكن بعيدا عن رغبتها في إحراج الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، أراد أوباما ان يسلم ترامب كرة نار سرعان ما ستشتعل في ثيابه بمجرد دخوله البيت الأبيض، وهو ما جعل الحكومة الإسرائيلية تغير دفتها وتتحدث مع إدارة الرئيس ترامب، وتطلب منه بشكل واضح التدخل لدى الرئيس عبد الفتاح السيسي لتأجيل القرار أو على الأقل تجميده.
التدخل في حقيقة الأمر جاء على أعلى مستوى، أجرى ترامب اتصالا رسميا مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، صحيح أن الاتصال كما جاء في بيان رئاسي تطرق إلى مستقبل العلاقات المصرية الأمريكية بعد تولى الادارة الجديدة بشكل رسمي، وأن الجانبين أعربا عن تطلعهما لأن تشهد المرحلة القادمة تناميا ملحوظا يشمل جميع جوانب العلاقات الثنائية وتعاونا في جميع المجالات التي تعود على شعبي البلدين بالمصلحة والمنفعة المشتركتين، وصحيح أن الرئيسيين تطرقت في حديثهما التليفوني الى الأوضاع الإقليمية وتطوراتها المتلاحقة التي تنبئ بتصاعد التحديات التي تواجه الاستقرار والسلم الدوليين لا سيما في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يعزز من أهمية التعاون المشترك بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية في سبيل التصدي لهذه المخاطر.
لكن الهدف الأصيل لهذا الاتصال كان شيئا آخر تماما، فقد تحدث ترامب عن القرار المطروح أمام مجلس الأمن حول الاستيطان الإسرائيلي، وطبقا للبيان الرئاسي، فإن الرئيسان اتفقا على أهمية إتاحة الفرصة للإدارة الأمريكية الجديدة للتعامل بشكل متكامل مع جميع أبعاد القضية الفلسطينية بهدف تحقيق تسوية شاملة ونهائية لهذه القضية.
هذا هو الكلام الرسمي، ما وراءه يضع أيدينا على الكثير.
كانت الإدارة المصرية تعرف جيدا أن القرار الذى قدمته لمجلس الأمن لن يمر بسهولة، بل لن يمر على الاطلاق، فهي تعرف أن الادارة الأمريكية ستستخدم حق الفيتو، وهو أمر اعتادت عليه في كل ما يخص اسرائيل، لكنها لم تتراجع عن القرار، فقد أرادت أن تضع الأطراف الدولية جميعها أمام مسئولياتها الدولية، وحتى عندما عرفت أن الإدارة الأمريكية الحالية تفكر في عدم استخدام الفيتو، فإنها كانت تعرف أن هناك أطرافا أخرى يمكن أن تستخدم هذا الكارت، فقد كان مؤكدا أن بريطانيا ستفعل هذا، لكنها مضت فى طريقها، مقتنعة بأنها على الأقل ستكسب ما يمكن أن يضاف معنويا الى القضية الفلسطينية .
لكن مبادرة ترامب كان لها وقع آخر، الاتصال لم يمكن مجرد تبادل مجاملات بين الرئيسين، بل يمكن اعتباره بالفعل مبادرة، فالرئيس الأمريكي الجديد، يطلب من الرئيس السيسي أن يمنحه فرصة، من أجل تحقيق خطوة حقيقية، في القضية الفلسطينية، ولأنه يعرف أن القرار المصري رغم عدالته التامة إلا أنه يمكن أن يساهم في تشدد اسرائيل تجاه ما يطلب منها، فقد طلب تأجيله.
وعد ترامب الرئيس السيسي أنه وبمجرد دخوله البيت الأبيض سيستدعى أطراف القضية الفلسطينية، من أجل حل عادل وشامل.
كان يمكن للرئيس عبد الفتاح السيسي أن يرفض شفاعة ترامب، أن يمشى فى طريقه الى النهاية، لكن من يدركون خفايا السياسية الدولية لا يمكن أن يقروه على ذلك، فقد ربح بتعهد ترامب التدخل المباشر لحل القضية الفلسطينية أضعاف ما كان يمكن أن يحققه من قرار الاستيطان الذي تقدمت به مصر أمام مجلس الأمن.
لقد حدد ترامب موقفه من القرار المصري بعد اتصالات مكثفة من مسئولي الادارة الإسرائيلية أبدت فيها مخاوفها مما أقدمت عليه مصر، قال في بيان رسمي أن السلام بين إسرائيل والفلسطينيين سيتحقق فقط عبر المفاوضات المباشرة بين الطرفين، وليس عن طريق فرض شروط من جانب الأمم المتحدة، واستند الى أن ما تفعله مصر يضع اسرائيل في موقف تفاوضي ضعيف للغاية، وهو غير عادل بالنسبة لكل الإسرائيليين، لم يكتف ترامب بهذا بل حث مجلس الأمن على عدم تمرير القرار.
كان يمكن أن يكتفى ترامب بموقفه المعلن عبر بيانه وتصريحات رسمية، وهي تصريحات تتوافق مع رؤيته لإسرائيل، وهي الرؤية التي تنحاز كلية لها، للدرجة التي دفعته الى اختيار ديفيد فريدمان سفيرا لأمريكا في اسرائيل، ومن لا يعرف فديفيد يهودي متشدد، بل يرأس منظمة تعمل بشكل جاد على تمويل بناء المستوطنات الإسرائيلية.
لكن الرئيس الأمريكي الجديد اختار الطريق الأصوب، وهو أن يمر الى حل القضية الفلسطينية عبر مصر، وهو ما يمكن أن نثبت من خلاله دلالات كثيرة، أولها أن مصر استعادت دورها الدولي والإقليمي، وتحديدا فيما يخص القضية الفلسطينية، لقد باشرت مصر دورها الدولي خلال العاميين الماضيين بشفافية وتعقل، ولم تتورط في مؤامرات المنطقة التي لا تخفى على أحد، احتفظت بدورها الذي سعت من خلاله الى خلق أكبر حالة من التوازن، ولم تنحرف رغم ظروفها الصعبة الى مسارات كان يمكن أن تفقدها احترامها لدورها ومكانتها.
مبادرة الرئيس الأمريكي الذي قال للرئيس السيسي مباشرة بأنه أهم شريك له في منطقة الشرق الأوسط، تعنى أن مصر ربحت بدون عنتريات الكثير للقضية الفلسطينية، استطاعت مرة أن تضع اسرائيل في مأزق كبير بمبادرتها التي أعلنها الرئيس من أسيوط منذ شهور عن علاقات طبيعية بينها وبين الدول العربية، ثم من خلال استقطاب الرئيس الأمريكي وإبداء استعداده للبحث عن حل عادل وكامل للقضية.
كان يمكن لمصر أن تتورط في تحالفات وانحيازات تفقدها من دورها الكثير، كما حدث مع دول أخرى في المنطقة حاولت أن تلعب أدوارا تتجاوز حجمها وإمكانياتها وتاريخها، لكنها عادت الآن الى حجمها، بل تعاني تماما من سياساتها وتقترب النار من بيتها، بل اشتعلت النار في بيتها بالفعل.
الذين قالوا أن تراجع مصر عن قرارها في مجلس الأمن ضعف، لا يدركون كيف تفكر الادارة المصرية، فالتراجع أحيانا حكمة وتحقيق لمكسب كبير وهو ما حدث بالفعل.