أهرام.. أخبار.. جمهورية.. صيحة ممتدة شهيرة عاشت معها أجيال وراء أجيال طوال القرن الماضي، فمن منا لم يتفتح وعيه على واحدة من هذه الصحف الأشهر في الصحافة المصرية على مر التاريخ؟!.. أذكر شخصياً أن بداية شغفي بالقراءة هو مشهد جريدة الأهرام، موضوعة في وقار واحترام على أحد مقاعد صالة منزلنا في حي السيدة زينب، في انتظار أن يقرأها الوالد أولاً رحمة الله عليه، قبل أن يتجرأ الآخرون على مطالعتها، هذا المشهد خلق الدافع داخلي وقتها في سن الصبا نحو معرفة مضمون ما تحتويه هذه الأوراق، خاصة عندما رأيت ذات المشهد في منزل جدي لوالدي في العباسية رحمة الله على أمواتنا جميعاً، فكان أن نادتني نداهة القراءة والمعرفة، وبات أجمل ما في حياتي أن ألبي دائماً هذا النداء في كل وقت وحين.
كانت الجريدة إحدى أهم السلع الأساسية في كل بيت، علاقتها بالقاريء وثيقة إلى حد اقتطاع ثمنها من دخله المحدود، فهي إحدى أهم أولوياته رغم تعدد إصدارات الصحف والمجلات مع مرور السنوات،وزيادة ثمنها من حين لآخر،وإن تعذر شراؤها على البعض، تجده يسعى للحصول عليها من زميل في العمل، أو جار في السكن، حتى يقرأها إشباعاً لنهمه المعرفي، وقبل أن يعيدها لمن يحرص على الاحتفاظ بها،نشأنا على صحافتنا القومية الرصينة، وواكب شبابنا ذروة توهج صحف المعارضة بعد عودة الروح إليها، فتابعنا الأهالي والوفد والعربي الناصري، وأبى القرن العشرون أن ينتهي إلا وتعود من جديد صحافتنا المصرية المستقلة، فكانت الدستور وبعدها الأسبوع في منتصف التسعينيات، وقبل أن تتوالى مع مطلع القرن الحادي والعشرين العديد من الصحف المستقلة التي مثلت الاتجاه الليبرالي الوسطي ما بين الصحف القومية والمعارضة، فكانت في المقدمة المصري اليوم ثم اليوم السابع والوطن وأخيراً المقال، وغيرها الكثير من الصحف اليومية والأسبوعية، واستطاعت الصحافة المستقلة في سنوات قليلة الحصول على مساحة كبيرة جداً في مقدمة اهتمامات القاريء.
ولكن لا يرحل هذا العام إلا ويترك لنا هم صاحبة الجلالة، فما بين فكيتحرير سعر صرف الجنيه في مواجهة الدولار، وتطور تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، تلفظ صاحبة الجلالة أنفاسها الأخيرة، فقد زاد تعويم الجنيه تكلفة طباعة الصحف والمجلات بنسبة 80%، فلا زلنا نستورد مستلزمات الطباعة من أحبار وأوراق وغيرها من الخارج، ولم تجد صحفنا مفراً سوى اللجوء إلى زيادة أسعارها أو تخفيض عدد صفحاتها أو كلاهما معاً في محاولة أخيرة للبقاء على قيد الحياة، ولكنها مسألة وقت، وعلى الناحية الأخرى، ساهمت تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات بتطبيقاتها الرقمية في انصراف القاريء عن الصحف والمجلات المطبوعة، فالمواقع الإلكترونية باتت الأسرع والأكثر جاذبية في نشر الأخبار والتقاريروالفيديوهات المصورة، ولا يخلو بيت أو عمل أو يد الآن من أحد أجهزة الاتصالات الحديثة التي تأخذ القاريء في ثوان معدودة إلى آخر الأخبار، وأهم الأنباء، ولم تفعل برامج التوك شو بقنواتنا الفضائية وموجاتنا الإذاعية إلا أن دفعت في ذات الاتجاه، فباتت كثرتها جميعاً تغلب شجاعة صحافتنا المطبوعة مهما تجاسرت، والأمر هنا أيضاً مسألة وقت.
هل لا تزال صاحبة الجلالة تستطيع المواجهة؟.. بكل أسف تفقد أدواتها مع الوقت، والبقية الباقية لن تعينها إلا قليلاً، فالمعلن أصبح يفضل القنوات الفضائية والموجات الإذاعية بعدما صارت الأكثر انتشاراً والأقوى تأثيراً، والاشتراكات السنوية التي كانت يوماً أحد أهم مصادر دخل الصحف والمجلات تراجعت بتراجع توزيعها جميعاً، في حين انصرف القاريء بالفعل إلى القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية، خاصة بعد أن ضاقت حاجته اقتصادياً عن شراء الصحف والمجلات بعدما زادت أسعارها فصارت من كمالياته،وزاد الأمر تعقيداً معاناة الصحفيين بشكل عام، والشباب منهم بصفة خاصة،هؤلاء الذين يمثلون أحد أهم أعمدة صناعة الصحافة، وقد لخص أحوالهم الزميل أحمد درويش في أول تحقيقاته الاستقصائية المنشور في أكتوبر الماضي تحت عنوان (خريف صاحبة الجلالة).. حيث تلخصت كوابيس 60 صحفياً شملهم الاستطلاع في قضايا الفصل التعسفي، والتعيين، وتدني الأجور، والتهجير بمعنى أن يضطر الصحفي للعمل في مهن أخرى أو ورديات إضافية في مؤسسات صحفية أخرى ليكفي بالكاد حاجاته الأساسية، وأخيراً كابوس الاعتقال أو القتل.
هل هناك مخرج من الأزمة ينقذ حياة صاحبة الجلالة؟.. ليس إلا جرأة إعادة هيكلة مؤسساتنا الصحفية القومية، وبحيث يكون الكيف هو الهدف وليس الكم، فدمج صحفها ومجلاتها المطبوعة صار حتمياً، فجريدة يومية وأخرى أسبوعية، ومعهما مجلة أسبوعية وأخرى شهرية، تعد في حالتنا هذه شيئاًأفضل من لا شيء،أما صحف المعارضة، والتي لم يتبق منها على قيد الحياة سوى الوفد اليومية والأهالي الأسبوعية، فدعم الدولة واجب لها طالما استمرت تدعم مؤسساتها الصحفية القومية، فتشكيل وعي الأمة يستحق الدعم في كل الأحوال، أما صحفنا المستقلة، فملاكها من كبار رجال الأعمال أولى بها، خاصة وأنها نشأت بالأساس في موجتها الجديدة حتى تكون لسان حالهم في مواجهة الدولة.
وعليها جميعاً، صحف قومية ومعارضة ومستقلة، أن تعمل جاهدة في ذات الوقت على تطوير مواقعها الإلكترونية، وتسوية أوضاع العاملين بها جميعاً، صحف ومواقع، بل وتأهيلهم لمواكبة تطور تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات بالعمل على ممارسة المهنة بقوة على صفحات الويب، فمنية صاحبة الجلالة بكل أسف آتية لا محالة، ولا نعيش هذه الأيام إلا حلاوة روحها.