( 1 )
الاعتراف بوجود المرض هو الخطوة الأولى الصحيحة واللازمة للعلاج، هذه إحدى البديهيات ولكن من قال أننا فى مصر لم نتخطَّ حتى الآن مرحلة البديهيات التى تجاوزتها أغلب المجتمعات المتحضرة من حولنا، فلا زالت أغلب معاركنا الكبرى تدور حول بديهيات مثل هل يجوز للمسلمين تهنئة المسيحيين بأعيادهم أم أن ذلك يدخل فى نطاق المحرمات ؟ هل يصح أن نصِف ضحايا العمليات الإرهابية إذا كانوا مسيحيين بأنهم شهداء ونترحم عليهم أم أن هذا مخالف للدين ؟ ندخل الحمام برجلنا اليمين ولا الشمال ؟!
معارك تافهة وجدال عقيم لكنه سيستمر ما دامنا لا نريد أن نعترف بأن لدينا مرض مزمن اسمه الفتنة الطائفية وننكر وجوده بإصرار، رغم أنه مرض مستشرى، فالحوادث الطائفية لا تتوقف وكان آخرها حادث تفجير الكنيسة المرقسية وسقوط ضحايا أغلبهم من الاطفال والنساء.
نحتاج إلى وقفة جادة ومصارحة مع النفس كمجتمع بكل أطيافه من مثقفين وأهل فكر وسياسيين وإعلاميين وعلماء ورجال دين، من النخبة وحتى رجل الشارع العادى، يجب أن نقف جميعًا أمام أنفسنا لنصارحها ونعترف .. نعم نحن لدينا مرض مزمن فى مجتمعنا اسمه الفتنة الطائفية، فى هذه اللحظة فقط سنكون على بداية الطريق الصحيح للعلاج، وحتى يأتى هذا اليوم سأبدأ بنفسى وأتكلم فى هذا المقال بصراحة ربما لا يتحمّلها البعض، ولكنها الحقيقة التى نعلمها جميعًا ونخَبئها فى صدورنا ونهرب من الإعتراف بها، ونكتفى بترديد شعارات مثل (عاش الهلال مع الصليب) فهذه تجربتى الشخصية مع الطائفية ولا أظن أن هناك من تختلف تجربته عنى كثيرًا لأننا جميعا نتاج نفس الثقافة وتحكمنا أفكار وتقاليد واحدة.
( 2 )
كانت أمى رحمها الله امراة طيبة وبسيطة مثل كل أمهاتنا جميعًا تحكمها العاطفة والفطرة السليمة النقية ولكن تشَوش عليها أحيانًا بعض الأفكار الدينية المغلوطة التى تبث فى عقول البسطاء عبر مشايخ متعصبين لتتحول بمرور الزمن إلى أفكار وتعاليم دينية راسخة لدى العامة، وما زلت أذكر موقفان فى منتهى التناقض عشتهم مع أمى وأنا طفلٌ صغير لم يتجاوز عمرى السبعة أعوام تقريبًا.
الموقف الأول عندما لقى جارنا المسيحيي عم زكريا حتفه فى حادث سيارة وكانت أمى تذهب إلى منزل أسرته كثيرًا فى هذه الفترة للعزاء والوقوف بجوارهم فى هذه المحنة، وهو ما جعلنى أعتاد الذهاب إلى منزلهم وقتها، وفى إحدى المرات ذهبت بمفردى وتناولت معهم الطعام وعندما عدت إلى المنزل وأخبرت أمى ببراءة تليق بطفل بأننى لست جائعًا لأنى أكلت فى بيت عم زكريا فوجئت بها تغضب وتنهرنى وتطلب منى ألا أكرر ذلك مرة أخرى أبدًا وتصف طعامهم بصفات فى منتهى السوء لدرجة ان بطنى وجعتنى فعلا.
ولكنها هى نفسها أمى التى ارتبطت بعلاقة طيبة مع جارتنا الأخرى مريم وزوجها مكرم، كانا متزوجان حديثًا وسكنوا بجوارنا وتعلقت بهم أمى ودخلت منزلهم وأكلت وشربت، وما زلت أذكر دموعها عندما تركوا منزلهم وكيف أخذتنى فى إحدى الأيام لنزورهم فى منزلهم الجديد، وبقيت دائمًا تذكرهم بكل خير وتترحم على أيام جيرتهم الطيبة.
تغلبت المشاعر الإنسانية لدى أمى على أى شىء آخر وكانت لها الكلمة الأخيرة، ولكن بقيت بعض الرواسب التى خرجت فى فى جملة عفوية كانت تقولها أمى وتكشف مدى التناقض والارتباك والصراع ما بين الفطرة البشرية والأفكار الخاطئة فكانت تقول (مريم ومكرم دول متحسش انهم مسيحيين) !
( 3 )
بهذه الأفكار ذهبت إلى المدرسة ولم أجد هناك إلا ما يعمقها ويزيد من تأثيرها بداخلى، فكنت أرى زميلى المسيحى يخرج من الفصل قبل حصة الدين ونحن ننظر له باستغراب وعدم فهم وكأنه كائن فضائى، لم نفهم كأطفال معنى الإختلاف ولم نجد فى المدرسة من يعلمنا تقبله بل كانوا يعلموننا العكس بمناهج تعليمية بائسة تمحى شخصياتنا وتحولنا إلى مجرد آلات تحفظ وتسمع فقط.
ولذلك لم يكن غريبًا أن يحاول طفل فى الصف الأول الإعدادى إقناع زميله المسيحى بالفصل بالدخول إلى الدين الإسلامى.
هذا ما فعلته أنا فى إحدى الأيام أثناء عودتى من المدرسة سيرًا على الأقدام وكان يمشى معى اثنان من زملائى بالفصل لا أتذكر أسمائهم وكان أحدهم مسيحيى، أذكر انه كان منطويًا خجولاً متحفظًا أو شِبه خائفا، لم يدخل معى فى جدال أو يرد على كلامى سوى بكلمات قليلة وردود مقتضبة بينما أنا أتكلم بحماس واندفاع عن أن الدين الإسلامى هو الدين الصحيح وأن المسيحية خطأ وأنى أخاف عليه من عدم دخول الجنة لأن السلمين فقط هم من سيدخلونها، وكنت أفكر وقتها فى أننى سأقوم بعمل عظيم لو نجحت فى هدايته إلى الإسلام.
( 4 )
هذا الموقف وإن كان مجرد تصرف طفولى ساذج ولكنه يحمل دلالة كبيرة على مدى التشوُّه الذى تعرضت له عقولنا فى الصغر، وإذا نظرنا حولنا سنجد الكثيرين قد كبروا وما زالوا بنفس العقلية التى كنتها صغيرًا، بل أسوأ فهناك من تحولوا إلى إرهابيين يكَفِّرون المجتمع ويستحلون دماءه، والبعض يعيشون بسلام ولكنهم يحملون عقول داعشية متطرفة لا تقبل الآخر وتحتقره، وهؤلاء المتعصبين موجودون على الجانبين بالمناسبة.
هذا الطفل الذى كنته وحاول إقناع صديقه المسيحى بدخول الإسلام فعل ذلك لأنه تربى على نكتة الشيخ والقسيس و (عشمان حنا يخش الجنة) هذه المقولة التى تحولت إلى ما يشبه الحكمة الشعبية وتقال أحيانا بصيغة أخرى بذيئة يعرفها الجميع، تربى على (متاكلش عندهم دول أكلهم معفن) و (عضمة زرقا) و (الواد ده كفتس) و (بيستحموا بمية القسيس) و (دول بيبوسوا بعض فى الكنيسة) و (القساوسة بيلبسوا اسود حزنا على دخول الإسلام لمصر) و (ده مسيحى بس كويس) وغيرها وغيرها وغيرها
( 5 )
ليس الهدف من هذه الكتابة هو الدفاع عن المسيحيين، وإنما مجرد محاولة لكشف المشهد على حقيقته دون أى تجميل، فهناك الكثير من الصديد الذى يجب إخراجه قبل أن نفكر فى إغلاق هذا الجرح العميق يجب أن نبدأ (على نضافة ) إذا كنا نريد فعلًا أن نبدأ وأن نعالج المرض بجدية وليس مجرد الطبطبة، فالفتنة مستيقظة لعن الله من أوهمنا بغير ذلك.
أما المسيحيين فهم وإن كانوا الجانب الأضعف لأنهم أقلية وهو ما يجعلهم فى أغلب الوقت الطرف المجنى عليه، فالتعاطف معهم ومع حقوقهم ليس جريمة أخاف أو أخجل منها ولكن الشىء المؤكد هو أن لديهم أيضا أخطاء وهم أدرى بها، وهناك بعض المتعصبين لديهم أيضا وقد جلست مع أحدهم يومًا وكان حديثه يقطر تعصبًا وكراهية للإسلام.
ما يهم الآن يا سادة أن تنظروا جميعا إلى مرآتكم سواء كنتم مسلمين أو مسيحيين أو أى شىء آخر. تنظروا وتعترفوا .. نعم نحن مجتمع طائفى بامتياز. حينها فقط سيكون هناك أمل فى أن يأتى غدٌ نتقبل فيه بعضنا البعض ونحترم اختلافنا ونقدس حريتنا ونؤمن بقيمة الحياة ونحاول ولو لمرة أن نعيشها كما يجب.