سيد الخمار
في مصر تشعر وأنت تمشي بسوق السيدة عائشة أن تاريخ مصر كائن حي يتحرك بجوارك، وكم أنجبت عباقرة استحقوا الخلود في وجدانها الندي، الغريب والعجيب أن كرسي مصر المحروسة لا يذهب أبدا لمن يطلبه، سر إلهي كبير يعلمه الله، ونحن الشعب الوحيد الذي أرسل الله له من السماء أول وزير تموين – سيدنا يوسف الذي كان على خزائن مصر في السنوات السبع العجاف التي تتكرر كل عشرين عاما تقريبا منذ القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، وحُكم مصر، أمر معقد مدهش ذهب كثيرا لمن لا يستحق ولم يذهب لمستحقيه،، وفي تاريخها كله، هناك أديب واحد رفض رئاسة مصر؛ إنه صاحب الوعاء المعرفي العقلي المتكامل الموسوعي، تشعر معه أنه جزء من سطور كتاب “فجر الضمير” لكاتب المصريات الأهم في الدنيا “هنري برستيد”، لكن نهاية حياة لطفي السيد كانت مختلفة، من يصدق قيمة وقامة كاتب من أصغر تلاميذه، العملاق عباس العقاد وطه حسين ومصطفى مشرفة.
في الطفولة كانت حالة الوعي الأول شمعة من سيدة بسيطة هى الشيخة فاطمة محفظة القرآن العظيم، تشع نورا داخله، هو أفلاطون الأدب العربي كما وصفه عمالقة عصره، عاش قرنا إلا قليلا من تاريخ مصر، وكان قرنا حافلا بالأحداث، شهد موجات من الصراع الفكري والسياسي والاجتماعي، وهو ما طبع تاريخ مصر فى تلك الفترة بطابع خاص متميز، وهو من رفض أن يكون رئيس جمهورية مصر العربية بعد ثورة يوليو، إنه أستاذ الجيل، هو صاحب المقولة الشهيرة «الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية»، والأمة لديه «الأمة المصرية»، يؤمن بأن التعليم أهم من الاستقلال، ومن أوائل المنادين بتعليم المرأة، حيث تخرجت أول دفعة جامعية من الطالبات في أثناء إدارته للجامعة.
وقد تأثر بالشيخ محمد عبده الذي تعرف إليه في أثناء دراسته وشجعه لما رأى تميزه فى الكتابة وميله إلى الحرية والديمقراطية، كما تأثر بأفكار جمال الدين الأفغاني، فكانت مدرسة أحمد لطفي السيد امتدادا لمدرسة الشيخ محمد عبده في اعتناقها للإصلاح والتطور وابتعادها عن العنف السياسي، وإن عاد أحمد لطفي للعمل السياسي الذي ابتعد عنه الشيخ محمد عبده، حيث اهتم جيل ما بعد الثورة العرابية بالسياسة ومارسها، وتحددت معالم الاتجاهات الفكرية والسياسية والاجتماعية، وانعكس ذلك على شخصية لطفي السيد فأصبح الناطق بلسان جيله حتى صار معلمه الأول، وكان لديه من الاستعداد الذهني والعقلي ما بوأه مكان الصدارة الفكرية، فلم يتقيد بتقاليد الطبقة التي ينتمي إليها، «طبقة الأعيان»، ولم يتحرر منها، فتبنى المفهوم الليبرالي للحرية في أوروبا، مناديا بتمتع الفرد بقدر كبير من الحرية وغياب رقابة الدولة على المجتمع، فالأمة من حقها أن تحكم نفسها بنفسها، مشددا على ضرورة أن يكون الحكم قائما على أساس التعاقد الحر بين الناس والحكام،
وهنا يختلف أحمد لطفي السيد عن الإمام محمد عبده الذي يؤمن بحكم الفرد بشرط أن يكون عادلا، والذي يرى لطفي أنه لا يصلح إلا للمجتمعات البدائية.
كما دعا لطفي السيد للقومية المصرية والربط بين الجنسية والمنفعة، بعيدا عن الرابطة الشرقية والدينية، كأساس لانتماء المصريين، رافضا ربط مصر بالعالم العربي أو تركيا أو العالم الإسلامي سياسياً، يقول لطفي: «إن مصريتنا تقضي أن يكون وطننا هو قبلتنا، وأن نكرم أنفسنا ونكرم وطننا فلا ننتسب لوطن غيره».
وبعد أن ترك أحمد لطفي السيد العمل الحكومي، انضم إلى مجموعة من الأعيان أصحاب الفكر والقلم والنضال السياسي، منهم علي شعراوي، وعبد الخالق ثروت،و سليمان أباظة، لتأسيس حزب الأمة عام 1907، واُختير أحمد لطفي السيد سكرتيراً عاماً له ورئيساً لتحرير صحيفته المعروفة باسم «الجريدة»، وكانت سياسة الجريدة تقوم على المطالبة بالاستقلال التام والدستور والدعوة إلى فكرة مصر للمصريين، وأشار أحمد لطفي السيد إلى هذا الاتجاه «نريد الوطن المصري والاحتفاظ به، والغيرة عليه كغيرة التركي على وطنه، والإنجليزى على قوميته، لا أن نجعل أنفسنا وبلادنا على المشاع»، وقد استمرت رئاسته للجريدة ما يقرب من سبع سنوات، ثم عُين أحمد لطفى السيد مديراً لدار الكتب.
وبعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى سنة 1918، استقال أحمد لطفي السيد من دار الكتب، واشترك مع سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وغيرهم في تأليف وفد للمطالبة بالاستقلال، وسافر لطفي السيد مع الوفد المصري إلى باريس لعرض مطالب مصر على مؤتمر السلام في فرساي، وظهر متميزا بعقليته المفكرة عن غالبية المجموعة المصاحبة له، ومن هناك بعث الوفد بنداء تاريخي إلى الأمة، كتبه لطفى السيد: “أيها المواطنون الأعزاء.. لقد رفعتم منذ عامين عن كبريائكم القومي ذلك العبء الذي يثقل كاهله، وبصيحة الاستقلال أعلنتم في وجه العالم بأسره حقكم في الحياة، ومازلتم من ذلك اليوم تثبتون أنكم جديرون بأمانيكم الوطنية، وجاءت نتيجة الاستنارة برأيكم في مشروع الاتفاق مثبتة أن الاستقلال ليس في نظركم كلمة تردد في الفضاء بغير معنى، بل أنتم تريدون استقلالا حقيقيا خليقا بكم، وبمستقبلكم الذى سيرسل غدا أشعته الوضاءة على مصر، هذا الاستقلال سنحصل عليه باتحادنا، وبروح التضحية والإيمان بأنفسنا بعدالة قضيتنا المقدسة، إيمانا هادئا صادقا.. فلتحيا مصر”.
وتمضي الأيام حتى يصبح لطفي السيد مديراً للجامعة المصرية «جامعة القاهرة» بعد أن أصبحت حكومية عام 1925، وعمل على توسيع الجامعة لتضم عدة كليات منها كلية الحقوق والهندسة والزراعة والتجارة، وظل لطفى يدير أمور الجامعة لا يبتعد عنها إلا حين يدعوه الواجب إلى العمل القومي أو يدعوه الحرص على استقلالها احتجاجا على عدوان يقع عليها، ولم يكن يتركها إلا ليعود إليها، فابتعد عنها أول مرة حينما طلب منه صديقه محمد محمود أن يشارك في وزارته عام 1928، ليشغل منصب وزير المعارف، ثم عاد إلى الجامعة في العام التالي بعد استقالة وزارة محمد محمود، وابتعد عن الجامعة في المرة الثانية حين قامت وزارة إسماعيل صدقي بطرد الدكتور طه حسين من الجامعة عام 1932، وهو ما رآه لطفي السيد عدوانا على استقلال الجامعة فقدم استقالته إلى وزارة المعارف احتجاجًا على هذا التدخل لأنه كان حريصا على كرامة الجامعة، وعمل على ابتعادها عن السياسة، ثم عاد إلى الجامعة بشرط أن يُعدل قانونها بما لا يدع لوزارة المعارف الحق في نقل أستاذ من الجامعة إلا بعد موافقة مجلسها، وتقدم باستقالته مرة أخرى عام 1937 احتجاجا على اقتحام البوليس لحرم الجامعة، التي يراها حرما خاصا يقوم على الحرية في الرأي والتفكير، ويعود للجامعة مرة ثالثة مشترطا أن يكف رجال الحكومة عن الاتصال بالطلبة وإقحامهم في السياسة للمحافظة على الإخاء الجامعى بينهم، وبقي لطفي السيد مديرا للجامعة حتى عام 1941، وشارك في وزارة إسماعيل صدقي عام 1946كوزير للخارجية، وخرج من وزارة صدقي لمواجهتها المد الشعبي المطالب بالتحرر والاستقلال، مفضلا الابتعاد عن السياسة، ثم تولى رئاسة المجمع اللغوي ثمانية عشر عاما. وهناك قصة طريفة، فقد كانت ديمقراطية أحمد لطفي السيد سببا في إخفاقه عندما رشح نفسه لعضوية البرلمان عن دائرة الدقهلية، حيث خاف المرشح المنافس له من مواجهته، فاستغل الجهل وحداثة كلمة الديمقراطية في العشرينيات من القرن الماضي، وأشاع في محيط الدائرة أن أحمد لطفي السيد ديمقراطي وأن الديمقراطية تعني الكفر، متهما لطفي السيد باستبدال إيمانه بالله بالديمقراطية، وانتشرت الشائعة في القرى ولاقت سخط أهل الدائرة على المرشح «الديمقراطي» الذي يدافع عن قضاياهم وحقوقهم، بعدما أقسم لهم المرشح المنافس أن لطفي السيد ديمقراطي، وحذر أهل الدائرة من انتخابه، معللا بأن ذلك ترك للإسلام واعتناق للديمقراطية، وانتظر أهل الدائرة المؤتمر الانتخابي لأحمد لطفي السيد، وسألوه: هل صحيح أنت ديمقراطي؟ ورد عليهم لطفي السيد: نعم أنا ديمقراطي، وعندما تأكدوا أنه ديمقراطي انصرفوا عنه.
ويقول الدكتور حسين فوزي النجار في كتابه عن أحمد لطفي السيد: “كانت الترجمة جزءا من رسالة الأستاذ لأمته ودعما لأفكاره التي نادى بها، فالترجمة في نظر لطفي السيد وسيلة وليست غاية وهي أنفع من التأليف”. في بداية النهضة، استغرق الأستاذ في ترجمة أرسطو قرابة ربع قرن، يقول عباس محمود العقاد عنه: كان في فكرته «أفلاطونيا» بجميع معاني هذه الكلمة، من غير منفعة أو بغير داع من دواعي الأنانية، ويعيش للمصلحة العامة تطوعا. ويقول طه حسين عن لطفى السيد: لست أعرف له نظيرا في الكتابة، ولا في التفكير، ولا في الترجمة، وأزعم أن ليس من بين المصريين وغير المصريين من يستطيع أن يجد له نظيرا في هذه الوجوه الثلاثة، وهو الذي رفض بشكل قاطع طلب زعيم الضباط الأحرار جمال عبد الناصر، رئاسة مصر، وكانت له وجهة نظر ضد تدخل الجيش في السياسية، فضلا عن عمره الذي تجاوز وقتها التسعين عاما