المستشار الوزاري الثاني على التوالي، في شهر يناير المبارك، يسقط متلبسا بتقاضي رشوة مالية، يالها من مفارقة مضحكة، فكم بهذا البلد من المضحكات لكنه ضحك كالبكاء.
الضحك المؤلم كالبكاء ليس طبعا حزنا على ضبط الفاسدين المفسدين، وإنما بسبب ذلك المنطق المفقود الذي صار يحكم حياتنا من أصغر تفصيلة بها، وحتى خطوطها العريضة، ذلك المنطق الذي يضدمنا بضرباته المتلاحقة التي لم نعد قادرين على متابعتها، حتى أصابتنا بحالة من الذهول الأقرب إلى “التناحة”.
– يا عمي أنا طالب إيد بنتك ويشرفني نسبكم
– طيب يا ابني اديني فرصة أسأل عليك
هذا جزء من حوار يكاد يكون محفوظا بسبب تكراره ومنطقيته عند تقدم أحد الأشخاص بالزواج من إحدى بنات العائلا، فلماذا تتعامل حكومتنا وأجهزتها مع مؤسساتنا وجهاتنا الرسمية باعتبارها لقيطة أو بنت حرام ليس لها من يخاف عليها ويكلف نفسه بالسؤال عمن تقدم لخطبتها؟ ولماذا يتم تأجيل هذا السؤال لما بعد الزواج والزفاف وإنجاب الأطفال؟!
فعندما تم إلقاء القبض على وزير الزراعة السابق الدكتور صلاح هلال في ديسمبر 2015، هللنا وفرحنا بتلك الخطوة فرغم أنه الطبيعي والمنطقي أن يتم محاسبة الفاسد والمخطئ، فإننا تعاملنا مع الأمر باعتباره نصرا وهدفا عزيزا حققناه، وذلك لأننا لم نعتد من قبل على محاسبة الوزراء والمسئولين مهما فسدوا وأفسدوا.
ثم انهمرت علينا أخبار ضبط مسئولين من صغار الموظفين، متلبسين بتقاضي رشوة بمبالغ هائلة، لدرجة ضبط أحدهم بمبالغ نقدية من عدة عملات مختلفة استدعت في اذهان المن رآها فورا صورة “مغارة علي بابا” الأسطورية، كشفت إلى أي مدى مال وخير هذا الوطن منهوب، لكنها ظلت في إطار موظفون “صغار” وصلوا إلى مناصبهم بحكم الأقدمية الوطيفية، ووضعتهم الصدفة في أماكن حساسة يتحكمون فيها بمصالح الناس.
إلى أن حمل إلينا شهر يناير 2017 خبرين يفصل بينهما أيام، الأول يوم 12 يناير عندما تم ضبط مستشار وزير الصحة لأمانة المراكز الطبية المتخصصة، متهما بطلب رشوة قدرها 4 ملايين جنيه مقابل إسناد توريد 12 غرفة زرع نخاع لإحدى الشركات من الباطن، للقيام بتوريدها لمستشفى معهد ناصر.
ثم الخبر الآخر يوم 21 يناير (بعد عشرة أيام فقط)، بضبط مستشار وزير المالية للضرائب العقارية، يتقاضى رشوة مالية قدرها مليون جنيه كدفعة أولى من إجمالى مبلغ 4 ملايين جنيه، من صاحب شركة مقاولات مقابل التلاعب في تقدير قيمة أرض قرية سياحية، في صفقة تهدر 500 مليون جنيه على الخزانة العامة للدولة.
الفساد طبعا ليس له مبرر، ولا فرق بين فاسد صغير وآخر كبير، فالفرق بينهم فقط في الظرف الذي يتوفر، وكما يقول المثل المصري: “كل برغوت على قد دمه”.
لكن تكرار سقوط مستشاري الوزراء تحديدا، “مع الانتباه جيدا للفظ “مستشار” ذلك الشخص الذي وصل لدرجة من العلم والثقة والخبرة تؤهله لاستدعائه من مكان عمله الأصلي “يكون غالبا منتدبا من جهة أخرى” ليكون العقل المساعد والمشير الأمين للوزير، وهو منصب في الحقيقة أراه أخطر من منصب الوزير، فيجب أن تكون نشوة الفرحة بتطبيق القانون على وزير الزراعة قد انتهت، ويصبح الانتباه والسؤال هنا فرض عين مهما كان هذا السؤال صعبا: أين دور الأجهزة الرقابية التي تلقي القبض على المفسدين في مناصبهم العليا، التي لا يتقلدونها سوى بتقرير وموافقة من نفس تلك الأجهزة؟
سيادة مستشار الوزير ليس موظفا صغير فقيرا يتطلع للغنى أعماه الشيطان وصور له أن الرشوة ستكون سبيله للصعود لطبقة اجتماعية فاخرة هو وأبنائه، سيادة مستشار الوزير موظفا كبيرا تمت ترقيته في عمله أكثر من مرة ووصل لمرتبة تؤهله للترشح لمنصب وزاري في أية لحظة، فأين تقاريره الرقابية؟ وأين ذمته المالية؟ التي تضمن حسن سيره وسيرته؟
التقارير الرسمية الصادرة عن “دولة المستشارين” في 2016 حددت المبالغ التي يتقاضاها رسميا مستشارين الوزراء في عهد حكومة الدكتور حازم الببلاوي بـ18 مليار جنيه مصري سنويا، (تذهب بعض التقديرات غير الرسمية إلى أن الرواتب التي يحصلون عليها تصل إلي 60 ألف جنيه شهريا ومكافآت أكثر من 200 ألف جنيه شهريا)، وعندما تولى المهندس إبراهيم محلب، رئاسة الوزراء بعد الببلاوي طالب بتقليص عدد المستشارين في الوزرات، فارتفع عددهم إلى 83 ألف مستشار يتقاضون سنويا 24 مليار جنيه على شكل رواتب ومنح وحوافز، حسب تقرير أصدره المركز المصري للدراسات الاقتصادية.
هذا العدد المهول من المستشارين في حد ذاته باب كبير من أبواب الفساد يجب غلقة فورا، وبدلا من البحث عن طرق وقوانين تخفض عدد الموظفين بالدولة، فإن التخلى عن نصف عدد هؤلاء المستشارين يوفر على الدولة نفقات هؤلاء الموظفين ويكفي لتعيين مثلهم معهم.
فمتى تجد مصر من يتولى أمرها ويطلب من السادة المرتشون فرصة للسؤال عنهم وعن أخلاقهم وضميرهم قبل تسليمها لهم لقمة سائغة؟