وليد سمير
منذ عدة أيام، وفي حدود الساعة الثامنة والنصف مساء، كنت واقفا على رصيف محطة سكك حديد محافظة بني سويف، منتظرا قطار الدرجة الثالثة المسمى بـ”قَطْر الصعيد” القادم من القاهرة، والمتجه إلى الصعيد، وجاء القطار ولم يتأخر عن موعده الأصلي سوى حوالي 10 دقائق، صعدت إليه، وكان على غير عادته غير مكتظا بالركاب ومن الممكن أن تجد مقعدا فيه لتجلس، حيث إن مثل هذه القطارات دائما ما تكون مكدسة بالركاب، حتى إنك قد لا تجد مكانا لتقف فيه بقدم واحدة.
جلست في إحدى العربات على مقعد في منتصفها تقريبا، أشاهد الباعة الجائلين، الذين يملأون مثل هذه الأماكن ويتحدثون بنبرة غريبة، وكان يجلس حولي ثلاثة رجال، كل منهم يحكي عن أسباب سفره، ويروي قصصه حتى يُسلي وقته، وكذلك كان حال كل من كان جالسا في العربة التي كنت فيها، وفي القطار عموما. مر بنا الوقت، وبدأ بعض الناس في حدود الساعة 12 صباحا يغمضون أعينهم أملا في النوم، خاصة مع برودة الجو بشكل كبير داخل القطار، الذي به العديد من النوافذ المفتوحة، كما إن بعض أبواب عرباته غير محكمة الإغلاق.
في حدود الساعة الواحدة صباحا وبينما كنا على مشارف دخول محافظة أسيوط، فجأة انقطع النور في القطار بكامله، وعمّ الظلام الدامس، ليقول بعض الناس في عربتي: “أحسن خلينا نعرف ننام”، لكن بينما يستعد البعض للنوم، إذا بأضواء خافتة تقترب منا، وقد كانت كشافات أجهزة المحمول الخاصة بمخبرَيْن تابعَْين للأمن، والذي من النادر أن تجدوه في مثل هذه القطارات.
المخبرَيْن يبدو أنهما شكّا في أن انقطاع النور في القطار، تم بفعل فاعل، قد يكون سارقا أو ما شابه، فبدآ ينظران في الركاب ويطلبان من بعضهم بطاقة إثبات الشخصية، وما أن اقتربا عند مقعدي، حتى اقترب مخبر منهما كان كبير البنية طويل القامة له شنب كبير يغطي فمه، وقال للرجل الذي كان بجواري: “شكل في حرامية في القطر”، بينما كان المخبر الآخر الأصلع صاحب المعطف الكبير يمزح قائلا: “إحنا جايين نسرقوكم”.
في تلك اللحظات كان يمر عبر الممر الذي بين المقاعد التي على اليمين وعلى اليسار، شاب يبدو من الضوء الخافت للكشاف الذي وجهه إليه أحد المخبرين، أنه كان ممسكا “كرتونة”، وكانت بشرته سوداء ويرتدي قميصا أزرق اللون، فاستوقفه المخبر وسأله عن بطاقته الشخصية، فرد عليه: “حاضر هطلعها من جيبي” ولكن في أقل من لحظة، يمكن أن نقول في فيمتو ثانية، ألقى ذلك الشاب الكرتونة في وجه المخبر، وانطلق يجري للخلف، ليصرخ المخبر وهو يجري وراءه: “امسكوا الواد الحرامي ده”، لينطلق وراءه المخبر الآخر قائلا: “هاتوا ابن الفرتوس ده”.
أحد الركاب أيضا، والذي كان على الجهة الأخرى من مقعدي، وذكر أنه مجند في الجيش، انطلق وراءهم، ليعرف ما إذا كانا قد أمسكا ذلك السارق، وعاد قائلا: “ما لحقهوش والواد فتح باب القطر بسرعة، ونط من القطر وهو ماشي”، بعد دقائق عاد النور مرة أخرى إلى القطار، لكن رجلا يرتدي “جلابية وعمة”، كان يجلس على بعد مترين من مقعدي، قام يصرخ قائلا “ينهار إسود محفظتي اتسرقت ودي فيها 700 جنيه”.
من هنا وضحت القصة، ويبدو أن ذلك الشاب الذي قفز من القطار، كان سارقا وهو من قطع النور عن القطار، حتى يتمكن من السرقة، بعدها بدأ بالطبع ركاب العربة يحللون الأمر بفطرتهم، فشاب كان يجلس أمامي واضعا سماعات في أذنه قال “أكيد يا حاج الواد ده، كان معاه المشرط بتاع العمليات ده، وسع جيبك بيه من غير ما تحس، وحط إيده وخد منك المحفظة”.
شاب آخر يضع قطعة قماش تسمى “شال أو لاثة” حول رأسه وأذنيه بدأ يمزح قائلا: “يلا تلاقي الواد دلوقتي خد الفلوس ورايح يتعشى بيهم” ليرد عليه رجل آخر كان يضع على نفسه بطانية: “تلاقيه دلوقتي روّح بيتهم كمان وهيطلب الأكل ديريفري” يقصد (دليفري).
الشاب صاحب الشال يقول ضاحكا: “تلاقوه حيران على كدة، مش عارف يختار يتعشى كفتة ولا همبرجر”، رجل آخر كان يجلس واضعا ذراعيه حول جسده من شدة البرد القارس ذكر: “كان المفروض الواد الحرامي ده، وهو بيجري، حد يحط رجله قدامه، ويعرقله ويوقع ويمسكوه”، ليرد عليه الرجل الذي كان يجلس بجواره قائلا بثقة شديدة: “ما كانش ينفع، ده لو حد كان مد رجله قدامه، كان هيقطمها له قطم”، شاب آخر كان يرتدي معطفا بنيا ضحك بشدة بعد ذلك الكلام، وقال: “ليه أومال تتقطم، هي رجل بلاستيك ولا إيه؟”.
فجأة خرج أثناء الكلام شاب كان ينام فوق المقاعد في المكان المخصص للحقائب، وقد ذكر أنه مجند يقضي خدمته في الجيش، وقال بصوت عالٍ: “أنا كنت نايم وما حسيتش بالحرامي ده، أنا لو كنت صاحي كنت مسكته من قفاه، ده أنا في الجيش من يومين، قائد الكتيبة بتاعتي بعتني مسكت اتنين تجار مخدرات من على القهوة وروحت جبتهم وحدي”.
وسط كل هذه الأحاديث، كان الرجل صاحب العمة المسروق، قد نزل من على مقعده وجلس على الأرض، واضعا يديه على رأسه كانه يندب حظه، وظل يقول وكأنه يتغنى بما جرى له: “الشخص اللي سرقني ده، يبقى شخص حرااااامي”، فيتحدث أحد الركاب ضاحكا “الراجل شكله اتجن، ده بيغنيها”، بعدها انتهت القصة بحديث سيدة كانت ترتدي عباءة سوداء حيث قالت: “ادعي عليه وقول حسبي الله ونعم الوكيل، ربنا ينتقملك منه”.