1- صفر المونديال
السبت 15 مايو 2004. مازلت أذكر ذلك اليوم جيدًا، وهو يوم جدير بألا يُنسى.
ففي الصباح كانت الصدمة الكبيرة بحصول مصر على صفر المونديال الشهير، فازت جنوب أفريقيا بتنظيم كأس عالم 2010 ونافستها المغرب بقوة، بينما مصر ” أم الدنيا ” لم تجد ولو شخصًا واحدًا فd هذه الدنيا يراها جديرةً بهذا الشرف ويعطيها صوته، فخرجت من مولد الفيفا بصفر كبير وخيبة أمل لا تُنسى.
رغم أننا جميعا نسيناها في مساء نفس ذلك اليوم، لأننا انشغلنا بمتابعة أهم حدث كروي في مصر، وهو لقاء القمة بين الأهلي والزمالك، فاز الزمالك يومها 2-1 وحسم لقب الدوري لصالحه للمرة الثالثة في 4 أعوام، تقدم بشير التابعي، وعبد الحليم علي بهدفين للزمالك، ثم سجل أبو تريكة – لاعب الأهلي الجديد وقتها – هدفًا اعتبرناه في ذلك الوقت مجرد هدف لحفظ ماء الوجه.
لم نكن ندرِ أنه علامة لما هو قادم. لم نكن ندرِ أن أبو تريكة بهذا الهدف يضع حدًا فاصلاً بين زمن سيطرة الزمالك على الألقاب المحلية، وبين عصر بطولات الأهلي الذي سيبدأ، ويعود في أعظم صوره على الإطلاق، لم نفهم ذلك في وقتها ولكننا فهمناه الآن، فمنذ هذه المباراة وحتى يومنا هذا، لم يفز الزمالك على الأهلي فى بطولة الدوري سوى في مباراة وحيدة لعبها الأهلي دون نجومه الأساسيين بعد حسمه للقب في نهاية موسم 2007، ومنذ هذا الدوري لم يفز الزمالك باللقب سوى مرة واحدة عام 2015 بعد 11 عامًا من الغياب والإنتظار.
https://www.youtube.com/watch?v=UcegUox9CFE
وبينما كنا ننتظر كان أبو تريكة يلعب، ويتألق، يحصد الألقاب، يصل إلى المجد، ويصنع أسطورته الخاصة، ظللنا ننتظر منذ سجل أبو تريكة هذا الهدف، وهو أول أهدافه في تاريخ لقاءات القمة، وطال الإنتظار حتى أصبح “تريكة” الهداف التاريخي للقاءات القمة، بل أننا انتظرنا عامين بعد إعتزاله في 2013 لنفوز بالدوري.
انتهى اليوم بصفر كبير لمصر، وهدفين للزمالك، وهدف وحيد للأهلي، لم يكن له أي تأثير على نتيجة المباراة النهائية، أو هذا ما ظنناه وقتها، فمن كان يتخيل أن هذا اللاعب المغمور، القادم من الترسانة، سيتحول إلى أسطورة حقيقية في غضون سنوات قليلة !
بالتأكيد لا أحد ..
2- القاتل المبتسم !
لك أن تتخيل مشاعر مشجع زملكاوي متعصب، تجاه لاعب يتحول إلى أسطورة في صفوف الغريم التقليدى، ويصنع مجده كله في سنوات هى من أسوا ما مرت على نادى الزمالك على مدار تاريخه، بالتأكيد لن يحبه.. هذه مشاعر طبيعية، وتحدث لمشجعي الكرة في العالم كله، ولا علاقة لها بأي شىء آخر يخص أبو تريكة بعيدًا عن كرة القدم.
كل الظروف في هذا الوقت كانت تسير لمصلحة الأهلى، وضد الزمالك، فالأهلى يشترى أبو تريكة ثم يُتبعه بأهم لاعبي الإسماعيلى بركات، والنحاس، والشاطر، ويتزامن هذا مع ظهور عماد متعب كمهاجم واعد ليكتمل عقد الفريق المخيف، بينما الزمالك رحل عنه التوأم حسن، وتراجع مستوى حازم إمام، والأسوأ أن النادي الكبير دخل في نفق مظلم بسبب وصول مرتضى منصور لرئاستة في ولايته الأولى، وهو الأمر الذي فجر العديد من المشاكل، والتي وصلت إلى ساحات المحاكم.
وسط كل هذه الفوضى التي عصفت بكيان الزمالك، أصبحت مجرد فكرة منافسة الأهلي بما يملكه من فريق مخيف شىء من العبث، ولم يبقَ للزمالك أحد في هذه الأيام إلا جماهيره الوفية التي بقيت تسانده رغم توالي الهزائم، وضياع البطولات تباعًا، فكل شىء كان يسير في اتجاه واحد، الأهلي يفوز .. الأهلي يحصد البطولات، وذلك القاتل المبتسم الذي يُقتلنا بأهدافه ثم يبتسم في براءة، ويجري ليحتفل كالأطفال بحركة (الطيارة) الشهيرة التي يصنعها بيديه، كم أكره هذه الابتسامة يا أبو تريكة ..
3- مع المنتخب ذلك أفضل جدًا ..
وجود أبو تريكة بصفوف المنتخب كان فرصة مثالية لأي مشجع زملكاوي لكي يحبه، ولو لفترة مؤقتة، فمع المنتخب لا مجال للإنتماءات سوى الإنتماء لمصر، شىء رائع أن ترى أبو تريكة يلعب من أجلك، ويتسبب في إسعادك، وهو من رأيته دائمًا يفعل العكس.
أعلم أن هناك بعض المتعصبين كانوا يكرهونه حتى وهو في المنتخب ولكنهم قلة، فأغلب جمهور الزمالك كرهوه مع الأهلي وأحبوه في منتخب مصر، ويبقى هذا أحد أسرار جمال كرة القدم، فلا أعتقد أن هناك شيئًا آخر قد يجعلك تكره إنسانًا وتحبه في نفس الوقت سوى تلك اللعبة المجنونة والمسماة بكرة القدم !
4- لماذا هو أسطورة
هذا الكم من البطولات التي أحرزها أبو تريكة سواء مع الأهلي، أو منتخب مصر، وكونه لاعبًا استثنائيًا صاحب موهبة خاصة وحريفًا يُمتع الجماهير بلمساته الساحرة، بالإضافة إلى الجانب الديني لديه، وكونه لاعبًا اشتهر بالتدين، ويسجد شكرًا لله عقب كل هدف يسجله، حتى أصبح أيقونة ” لمنتخب الساجدين ” كلها عوامل ساهمت بالتأكيد في صنع أسطورة أبو تريكة، ولكن هناك في رأيى عاملان هم الأساس في تحوله لأسطورة حقيقية وبطل شعبي في نظر الكثيرين.
السبب الأول: ظهوره الدائم في صورة المنقذ الذي يظهر في اللحظة الأخيرة لينهي الصراع، وينتصر لفريقه، فعلها بهدفه الأشهر في مرمى الصفاقسي التونسي، وهذا الهدف وحده كان كافيًا جدًا ليجعل الجماهير تتغنى باسمه مدى الحياة، ولكنه فعلها مرات أخرى عديدة وكأنه أحب هذه اللعبة، فكلما تأزمت الأمور واقترب الوقت من النهاية ولم يأتِ الهدف المنتظر، تساءل الجميع أين أبو تريكة؟
يظهر في هذه اللحظة في صورة الفارس، والمنقذ، وفي مشهد سينمائي تمامًا ليحسم المسألة بهدف قاتل يشعل المدرجات وينتزع الآهات ويُرسخ أسطورته في وجدان محبيه.
السبب الثاني: برحلة صعوده من القاع إلى قمة المجد والنجاح، ومن الحياة البسيطة المتواضعة إلى الشهرة، والمال، والأضواء التي تلاحقه في كل مكان، أصبح رمزًا للبسطاء وكأنه يعطيهم أملًا في إمكانية وجود غدٍ أفضل بالإجتهاد، والمثابرة، والكفاح وبشكل مثالي تمامًا.
فالحكايات الشعبية المأثورة غالبًا ما تدور عن بطل فقير مثالي يجتهد، ويكافح “لحد ما ربنه بيكرمه ويفتحها عليه من وسع” كما يقولون، هذه التيمة والقيمة الشِّبه راسخة في الوعي الجمعي للمصريين، وجدت أخيرًا مثالًا حيًا على صدقها وواقعيتها، فكيف بالله عليك لا يتحول أبو تريكة إلى أسطورة وهو اللاعب الموهوب، الناجح، المؤدب، المتدين، المنقذ، والذى هزم الفقر ولم يكتفِ فقط بهزيمة منافسيه على أرض الملعب ..
5- ليس قديسًا ولا إرهابيًا
تُطلق جماهير الأهلى على أبو تريكة ألقابًا مثل ” القديس ” و” الخلوق ” وبحياد تام، ودون أدنى تعصب لا أراه مستحقًا لمثل هذه الألقاب، هو بالفعل لم يكن لاعبًا مشاغبًا أو مغرورًا ولدينا نماذج عديدة للاعبين أفقدتهم الشهرة صوابهم مثل ميدو، وإبراهيم سعيد وغيرهم، ولكن كيف يكون قديسًا من أشتهر بالتحايل على الحكام للحصول على ركلات جزاء وهمية، أو دفعه للاعب طلائع الجيش فى المباراة الشهيرة ليسجل هدفًا غير قانونى وهو يعلم أن الحكم سيحتسبه ” باعترافه هو شخصيًا في أحد البرامج ” أو ذهابه لجماهير الزمالك وإشارته لهم بأن يصمتوا بعد تسجيله لهدف في مرماهم.
هى تصرفات عادية ولا أريد تضخيمها، ومن حق أبو تريكة أن يسعى إلى تحقيق الفوز، ولو بطريقة غير قانونية فليس وحده من يفعل ذلك، ولكنها تصرفات لا تجعل منه لاعبًا قديسًا أو خلوقًا، فإذا كان هذا قديسًا فماذا عن لاعب مثل علي خليل مهاجم الزمالك السابق، الذى احتسب له الحكم هدفًا غير صحيح في مباراة شهيرة أمام الإسماعيلى، فذهب هو إلى الحكم واعترف أن الكرة دخلت الشباك من خارج الملعب فلغى الحكم الهدف وتسبب إلغائه في خسارة الزمالك لبطولة الدوري. هذه هى الأخلاق والروح الرياضية التي أعرفها، ولم أرَ لأبو تريكة موقفًا مشابهًا لهذا طوال مسيرته في الملاعب بل كان يفعل العكس تمامًا.
أما عن كونه إرهابيًا فهو أمر مضحك ومحزن في نفس الوقت، فضيحة مجانية لم يكن لها أي داع، وأصبحت حديث العالم كله على مدار الأسبوع الماضي، بالطبع لا أحد فوق القانون، وليونيل ميسي أعظم لاعب في العالم كان مهدَدًا بالسجن عندما ثبت تهربه من الضرائب، وأيضا احترام أحكام القضاء أمر لا جدال فيه، ولكن القانون وأحكام القضاء أنصفوا أبو تريكة فهو يمتلك حُكمًا من محكمة القضاء الإداري بوقف تنفيذ قرار التحفظ على أمواله، وحُكمًا آخرًا بإلزام وزير العدل، ولجنة التحفظ على أموال الإخوان بوجوب تنفيذ الحكم الأول، ولكن محكمة الجنايات أصدرت بعدها حُكمًا بوضعه في قوائم الإرهابيين. وهو أمر غريب .. فلماذا لم يُنفَذ الحكم السابق؟ وكيف لا تُحترم أحكام القضاء الإداري رغم أنها واجبة النفاذ ؟ ثم كيف يتم وضع شخص ما في قائمة للإرهابيين دون أن يكون هناك حُكمًا قضائيًا نهائيًا صادرًا ضده ؟ أليست القاعدة البديهية تقول أن المتهم برىء حتى تثبت إدانته ؟
قد يكون ابو تريكة إخوانيًا أو متعاطفًا معهم أو حتى تورط في شراكة تجارية مع بعض المنتمين للجماعة، ولكن كل هذا لا يجعل منه إرهابيًا أبدًا. واثق أن القضاء سينصفه فى النهاية، فأبوتريكة لم يرهب أحدًا في حياته إلا منافسيه على أرض الملعب، وهو الإرهاب الذي تسبب فى إسعاد الملايين، الذين انقسموا الآن بين من يرونه قديسًا ومن يرونه إرهابيًا، أما أنا فمازالت لا أراه إلا لاعبًا أسطوريًا وأحد أعظم من لمسوا الكرة في تاريخ مصر.