محمد صلاح البدري يكتب: ملامح الحضارة الخشنة!!

يروق لي كثيراً أن أراقب الأطفال الرضع .. أحب أن أتابع ردود أفعالهم ..أتأمل ملامحهم و هم يتحسسون الحياة للمرة الأولي ..و يتعاملون مع كل المتغيرات المحيطة ، الجديدة عليهم بفطرتهم السليمة التي لا تضمر شراً.. أو لم تعرفه بعد ..!

إنها البراءة المطلقة.. التي تمنحك راحة نفسية رائعة .. و سكونا لا يفسده سوي بكائهم حين يكتشفون أن القدر قد القاهم لكل هذا التلوث والزيف ..و ربما لو امتلكوا خيارهم بيدهم لرفضوا الخروج من رحم أمهاتهم إلا بشروط قاسية لن نقوي عليها أبداً!!

والحقيقة أن تأملهم يبعث في نفسي سؤالاً لم أجد إجابته حتي الآن .. هل تفسد الفطرة بالحضارة؟! .. هل نقضي علي فطرتنا و برائتنا بكل تلك الضوضاء الإلكترونية حولنا ؟!

الإجابة لم تكتب أبداً في كتاب من قبل .. ولن تجدها بين آراء الفلاسفة عبر العصور .. و لكنك ستكتشفها وحدك إن أجبت علي تلك الأسئلة بصراحة ..

كم عدد الذين إعتذرت لهم “كذباً” أنك لم تسمع رنين هاتفك المحمول حين هاتفوك ؟ ..

متي أمسكت آخر مرة بكتاب سميك لتقضي ليلتك معه دون أن يقطع خلوتك رنين الهاتف أو حتي رسالة نصية من موقع إخباري لينبئك بإنقلاب عسكري جديد في مكان ما ..أو حتي بحادث تصادم وقع علي طريق الصعيد الزراعي؟!!

بل كم من المرات التي إنتحلت فيها شخصية العاقل الرزين علي مواقع التواصل الإجتماعي؟!

كم من المرات اضطررت أن تظهر إعجابك بحذاء صديقك الجديد  الذي لا يعجبك بالمرة ؟!

متي أردت أن تصرخ بأعلي صوتك في الشارع دون سبب؟..

بل لنكن أكثر صراحة..  كم عدد المرات التي أعجبتك فتاة خمرية اللون  .. وودت لو أوقفتها في الطريق لتخبرها كم هي جميلة و ساحرة .. و لكنك خجلت أن تفعلها لإعتبارات إجتماعية متعددة؟!

إنها الحضارة بوجهها القبيح .. الحضارة التي تفسد فطرتك الأولي .. والتي تمنعك أن تعبر عن نفسك كما تريد لدواعي المجتمع و العلاقات المتشابكة .. إنها مبعث الأمراض النفسية و الكبت اللا متناهي منذ نشأة الكون !!

يحكي لي صديقي الأستاذ “محمد مسعد” .. مصور الأهرام التاريخي أنه كان يتعمد أن يعود في جولاته الإفريقية إلي نفس القبائل التي زارها منذ أعوام ..فقط ليري أثر الحضارة علي هؤلاء القوم الذين يعيشون بفطرتهم .. حتي أنه  في إحدي المرات وجد أحدهم يشعل النار بطريقته البدائية المعتادة ..بينما يتدلي هاتفه المحمول من خصره !!

إنها تلك التفاصيل الدقيقة التي لا يمكنك أن تلحظها إلا في عالم يخلو منها.. فتبدو كخطوط سوداء سميكة تفسد لوحة رائعة ..لرسام موهوب !

يقول مسعد..” كنت أتأمل في كم التشوهات النفسية التي المت بهم مع كل تداخل حضاري معهم .. حاولت أن أستخدم الكاميرا لتشخيص تلك التشوهات .. حتي ملامحهم أصبحت أكثر خشونة .. بالرغم من أن حياتهم صارت أكثر رفاهية” ..!

ربما كان للحضارة وجوه أخري أكثر إشراقاً من هذا الجانب المظلم .. و لكننا أحداً لم يتمكن من إستغلالها أبداً دون الوقوع في براثن ذلك التلوث الذي تحدثه أعراضها الجانبية !..وربما كان هذا هو السبب الحقيقي الذي يسعي من أجله البعض للإنعزال عن العالم و العودة للطبيعة الأولي ..ليستمد منها فطرتها النقية .. و يتخلص من أثقال الحياة القاسية التي تجثم علي صدورنا ..

ستظل الحضارة بوجهيها تزيد من معاناتنا بدلاً من أن تخففها.. و ستظل الرغبة في أن نصرخ بأعلي صوت دون سبب معلقة في صدورنا ..لا نقوي علي البوح بها.. و سأظل أحب مراقبة الأطفال الرضيعة ..التي تتحسس الحياة للمرة الأولي .. والتي لا تضمر شراً.. أو لم تعرفه بعد!!