محمد مصطفى أبو شامة يكتب: مشكلة الإسلام

نقلا عن جريدة الأزهر

ومع العنوان المثير يلح سؤال أكثر إثارة، يستنطق الصمت الذي أخرس ألسنة، ويدفع المهموم بقضايا الأمة أن يجتهد بحثاً عن إجابات لهذا السؤال الحائرة.

كيف يمكن أن يتحول «دليل هدى» إلى «مرشد ضلال»؟

(1)

بداية.. المشكلة ليست في الدين فقط، فأمور كثيرة في حياتنا تحولت بفعل الجهل والعناد إلى مشاكل مزمنة.. تعثرنا في إيجاد حلول لها.

ولكن متى أصبح الإسلام مشكلة؟

وقبل أن تستغرقنا الأفكار، سألتقط من التاريخ الحديث «لحظتين» ربما يساعدا على الفهم والتفسير.. أما اللحظة الأولى فهي: الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801)، والثانية كانت: سقوط الخلافة العثمانية عام 1923، وأعتقد أن كل الأحداث التي مرت على أمتنا الإسلامية في العصر الحديث كانت أسيرة لهاتين اللحظتين، وأعتقد أن اللحظة الثالثة التي تقاربهما في الثقل والتأثير على الإسلام والمسلمين هي لحظة وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى حكم مصر عام 2012.

وعند اللحظات الثلاث الفارقة تفجرت مشكلة الإسلام، أو بمعنى أصح مشكلتنا مع الإسلام، وبدلا من أن يدفعنا زخم هذه اللحظات ودوي تأثيرها إلى الاجتهاد والتعقل، سقطنا في بئر الصراعات والخلافات، وعند كل لحظة منهم تجلى انشطار الأمة إلى فصيلين متصارعين (أو أكثر) يدعى كلاهما احتكاره الحقيقة. ومثلت هذه القناعة أولى ملامح الجهل الذي أدخلنا السرداب، ولم تفلح كل الجهود في أن تخرجنا منه طوال أكثر من قرنين من الزمان.

ربما لو عرفنا ثقافة الاختلاف، وتعلمنا قبول الآخر وبحثنا دوما عما نتفق فيه كي نتقارب، لكنّا أنهينا هذا الليل الذي طال بأكثر من قدرتنا على الاحتمال.. ولو كنا شعرنا حقاً بإسلامنا، لذابت قلوبنا في فيض نوره وتوارى الخلاف وظهر «البنيان المرصوص».. جسد الأمة الموحد.

وفي تشخيصه البديع لمشكلتنا مع الإسلام، أوجز كاتبنا الكبير الأستاذ خالد محمد خالد، رحمه الله، قائلا: «إننا من طول ما ألفنا بعض الآيات القرآنية، وبعض الأحاديث النبوية، أصبحنا لا نهتز من أعماقنا للسر الباهر الذي تحمله، والحكمة الثاقبة التي تمنحها».

(2)

إن الإسلام دين «ليبرالي».. «ديمقراطي»، يعتنق الحرية ويدين بها، دين أزال كل الوسطاء وحرم التجارة بالدين وأقر بالعلاقة المباشرة بين العبد وربه، هذا الرب الذي وصف نفسه بـ99 اسما، كلها تقرب المسافة الشاسعة بين الخالق والمخلوق، وتتيح لهذا المخلوق الضعيف أن يثق في ذاته، وفي أنه أسمى مخلوقات هذا الرب في هذه الدنيا، وتتحول ثقته هذه إلى فعل وحركة تعمر هذا الكون وتغزو دروبه كافة، بلا خوف أو تردد أو ارتباك، لأنه غفور ورحيم.

ومشكلتنا مع الإسلام، أننا لا نقدر ثمن الحرية ولم نتعلم كيف نختار، لهذا أعدنا إنتاج الكهنة «الوسطاء» في كل مجال، وأصبحت مهنة «السمسار» هي الأكثر جاذبية بين المهن، والأعلى في مكاسبها المادية والمعنوية، فازدحمت حياتنا بالسماسرة في كل مجال؛ بداية من الدين، ونهاية بالسياسة.

والإسلام أيضا دين «علماني» ذاب مع الدولة والمجتمع وذاب فيهما، ذاب في السياسة والاقتصاد، في الفن والرياضة، في الحب والزواج، ذاب في ذات الإنسان، ليطلق عقله محلقا في سماء الكون الفسيح يدور في فلك الله بحثا عن سبل الحياة.. يخترع ويبدع ويعيش في الدنيا كيفما شاء مسلما، دون صخب ومزايدة.

والإسلام دين قائم على الاختلاف، وقمة الإسلام والتدين به: هو أن تمتلك جرأة الاختيار بين بدائل.. لا يعني تعارضها أو تشابهها، أن أيا منها خطأ أو مكروه أو حرام، لكن يعني أن «الاختلاف رحمة» وفق القاعدة الشهيرة، لهذا فإن لهذا الدين أربعة مذاهب مختلفة لا يعني التزامك بأي منها أنك اخترت الصواب وما عداك مخطئون، لكن انتماءك لمذهب منها يعني أن هذا هو الأصوب، من وجهة نظرك.

(3)

أما الإشكالية «الأم» في العقل الإسلامي المعاصر، فهي فصل الدين «السماء» عن الدولة «الأرض»، وهي فكرة «مشبوهة» تستخدم لمزيد من الشقاق في جسد الأمة، وقسمته إلى «دينيين» و«مدنيين».

فالإسلام لم يكن أبدا «دينا» فقط، بل هو «دنيا» كاملة، والرسول عليه أفضل الصلاة والسلام وفق تصور فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، وضع الحد لمجال تدخل السماء في حركة الأرض، وأطلق العنان للنفس البشرية لتتفاعل مع الكون.. والإسلام حينما ينظر إلى حركة الحياة يفرق بين حركة «بنت تجربة»، وحركة «وليدة هوى».

لهذا فإن اللعب بـ«الإسلام» وفق الهوى واستخدامه من أهل السياسة وتوظيفه لمصالح دنيوية جريمة يجب أن يعاقب عليها القانون، ويجب ألا تستخدم مقولة «لا فصل بين الدين والدولة» لإرهاب العقول المستنيرة، فلا يوجد مسلم عاقل يفكر في هذا الفصل الفاسد، لكننا نريد فصلا آخر بين الإسلام والأهواء.. بين حب الدين وعشق السلطة.. بين متعة التقرب إلى الله ولذة السعي إلى الحكم.

وللحديث بقية إن شاء الله.