صيف القاهرة الساخن لم يكن مختلفاً مع بدايات يوليو 1988 ، عبر أثير الإذاعة مازال الحديث مشتعلا عن حرب العراق وإيران ، وعلى المقاهي كان مصير المنتخب في تصفيات كأس العالم بطل الحكايات، بينما قوافل المصريون العائدون من الكويت والسعودية تحتل رمال ميامي والمعمورة وجليم ، ولكن يبدو أن يوليو كان يخبيء شيئاً مثيرا في منتصفه .
نرشح لك : موسيقى الجيل (3) | “عودة” .. أوتوجراف على قميص زائر الفجر
داخل سيارة بيجو 7 راكب تقطع الطريق الصحراوي سمعته لأول مرة ، صوت جديد تتصدر كلماته لهجة بدوية واضحة ، مختلف ولكنه ضعيف ، بعيد عن كتالوج الأصوات المستقرة على الساحة خلال السنوات السابقة مثل علاء عبد الخالق والحلو وعلي الحجار ، و لم يكن على أية حال حميد الشاعري كما خمن مجند شاب جلس في الكنبة الخلفية .هذا قبل أن يعرفنا به السائق : ده علي حميدة ، في حد في مصر ميعرفش علي حميدة ؟!
صباح 14 مايو 1988 صدرت الطبعة الأولى من ” لولاكي” ، أول ألبوم للمطرب الشاب علي حميدة القادم من مطروح ، ملامح سمراء وشعر أشعث طويل ، حالة تشبة إلى حد كبير تمرد محمد منير على شكل المطربين في الحقبة السابقة ، ولكنها مختلفة مضمونًا ، في تمام التاسعة مساء من نفس اليوم طلب موزعوا الكاسيت طبعة ثانية من المنتج هاشم يوسف صاحب شركة الشرق للإنتاج ، مع نهاية شهر يوليو كانت الشركة قد أصدرت مايقرب من 11 طبعة في مصر فقط ، بخلاف الطبعات الموجهة للدول العربية ، ولم ينتهه العام إلا وباع علي حميدة 6 ملايين نسخة في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الأغنية العربية.
هي بلاشك المفاجأة التي لم يتوقعها الرجل عندما تحمس لعلي الذي زارة منذ عام في مقر شركته بصحبة الملحن سامي الحفناوي ، كان حميدة قد طرق أبواب الشركات قبلها بحثاً عن منتج يسمع صوته ، ولكن الإحباط تملك الشاب البدوي عندما ذهب ليقابل المنتج نصيف قزمان صاحب شركة صوت الدلتا التي كانت تنتج لعمرو دياب وقتها .
يقول علي أنه لن ينسى طوال حياته كيف عامله عم فراج عامل البوفية بطريقة غير لائقة عندما طلب منه كوب شاي ، فاستجمع مابقي من كرامته وغادر الشركة فوراً ، ولم يجد أمامه سوى الملحن سامي الحفناوي الذي كان معجبًا بصوته ، فقدمه للمنتج هاشم يوسف الذي كان متحمسا لتقديم الأصوات الجديدة ، ولكنه لم يكن يتخذ أية قرارات دون الرجوع لمستشاره الفني حميد الشاعري .
نرشح لك : موسيقى الجيل (2) | “شبابيك” .. حَنين فوق نيل الزمالك
يحكي علي حميدة : قدم حميد من خلال شركة الشرق عددًا من الأصوات منها من نجح ومنها من اختفى بعد تجربته الأولى مثل مجدي الشاعري ومحسن الشاعري ، سمع صوتي فالتقط بحدسه الخاص فكرة مشروع غنائي مختلف عن الأصوات التي قدمها سابقًا ، وفي مساء نفس اليوم دخلنا الاستوديو لتسجيل أغنية من كلماتي وألحاني هي “بيكي يا” ، ولكن الحظ كان يحمل لي ماهو أفضل.
تولى حميد الشاعري إدارة مشروع علي حميدة الغنائي ، الشاعري الذي قدم قبلها بسنوات أغنيات باللهجة الليبية في ألبوماته الاولى ” عيونها 1983 ” و ” رحيل 1983 ” ، بدا أكثر نضجا في تقديم هذا اللون الغنائي الأن بعد تجارب عديدة وفهم لذائقة الجمهور ، قدم الشاعري معادلة مدهشة بصوت علي حميدة ، كلمات هشة في المجمل لا تحتوي موضوعات أو أفكار واضحة مكتملة ، وألحان مولودة من رحم الفولكلور البدوي ، وتوزيعات موسيقية مواكبة للطفرة التي أحدثها منذ عامين ، مع الاعتماد على التنغيم الصوتي والذي تصدر أغنية “لولاكي” في ترديد الكورال لكلمة ” لولا لولا لولا ” و ” لا لا لا “، وهي تيمة
واضحة في أغلب توزيعات حميد خلال تلك المرحلة .
انتماء حميدة لنفس الثقافة تقريبًا كان عاملًا مشجعًا لحميد على الغوص بعمق في موسيقى تلك المنطقة ، حميد القادم من ليبيا حاملاً عقد زواج فني مشروع بين الأغنية الليبية ونظيرتها الشرقية ، مع صوت بدوي شاب قادم من مطروح المصبوغة بالثقافة البدوي الصحراوية تماماً ، مزيج موسيقي في 8 أغنيات حملت بصمة الشاعر عادل عمر صاحب توكيل الكلمة “الخفيفة” وقتها منذ أن كتب “جلجلي” ، وكتب علي حميدة 3 أغنيات بدوية هي وينها ، وبيكي ، وموجه ، في حين تقاسم حميدة وحميد ألحان الألبوم باستثناء أغنية لولاكي التي لم يتذكر الجمهور من هذا الألبوم سواها ، أما التوزيع الموسيقي فكان من نصيب حميد الشاعري الأب الروحي للتجربة .
المفارقة أن لولاكي التي كتبها عزت الجندي ولحنها سامي الحفناوي ، كانت في الأصل أغنية وطنية تبدأ كلماتها بجملة ” لولاكي يامصر ماغنيت ” ، والأغرب أن تلك الأغنية كانت مكتوبة لصوت جديد آخر في طور إنجاز ألبومه الأول ، هو أحمد ناجي حارس مرمى الأهلي الذي قرر الإتجاه للغناء فور اعتزاله ، إلا أن الحظ لم يحالف ألبومه الأول “أحلى المواني” ، والذي صدر عام 1981 ، واكتفى ناجي بعدها بكتابة الشعر .
سمع حميد أغنية لولاكي ، فأعجب باللحن وطلب من عزت الجندي تعديل الكلمات كي تناسب مايقدمه علي حميدة ، وبالفعل نفذ لها توزيعًا صاخبًا اعتمد على التنغيم الصوتي مصاحبا للسقفة الشهيرة التي ترد في الخلفية ، مع الإيقاع والصاجات المتراقص على صولو كيبورد يفصل بين الكوبليهات ، كان للكورال دور البطولة في صناعة الألبوم وربما كل الألبومات التي حملت بصمة حميد ، وصدر الألبوم يحمل اسم لولاكي ، وانطلق علي حميدة مغردا في حفلات الجامعة ، ومهرجانات مدينة ملاهي “السندباد” التي كانت المقر الرسمي لحفلات النجوم وقتها ، أصبحت لولاكي أغنية العام ، لم يلتفت الجمهور لبقية أغنيات الألبوم ، كانت الأغنية كفيلة بصناعة مايسمى بـنجم الأغنية الواحدة ، وتوارت جميع الأصوات في أقل من شهر أمام الصاروخ الصاعد علي حميدة.
علي حميدة يغني لولاكي في حفل بملاهي السندباد
حاول الجميع استثمار نجاح لولاكي بأي شكل من الأشكال ، التقط المنتج صفوت غطاس الفكرة واقترح تقديم فيلم باسم الأغنية يجمع علي حميدة والسندريلا سعاد حسني ، ورشح المخرج سمير سيف الذي تحمس في البداية ثم اعتذر سريعا بعد اعتذار سعاد حسني ، وتعطل المشروع لعامين كاملين توارى فيهما نجم علي حميدة بعد ألبومه الثاني ” كوني لي ” الذي صدر مع نهاية عام 1989 ، لم يتكرر نجاح لولاكي وذلك رغم استمرار تعاونه مع حميد الشاعري بنفس الفلسفة الموسيقية ، ضم الألبوم أغنيات جيدة مقارنة بأغاني لولاكي ولكن غاب “الهيد” الأسطوري الذي يحقق 6 ملايين نسخة ، فاعتبرت الصحافة النجاح – الطبيعي- فشلا ، ومل الجمهور من اصرار حميدة على الغناء البدوي مصحوبا بنفس التوزيعات التي يقدمها حميد لمطربين آخرين ، وفي عام 1993 قدم حميدة فيلم “لولاكي” مع المخرج حسن الصيفي ومعالي زايد التي شاركته البطولة إلا أن الفيلم لم يحقق النجاح الجماهيري المتوقع معلنا نهاية أسطورة مطرب الأغنية الواحدة ، الذي أقلق منام النجوم الصاعدة وقتها مثل محمد فؤاد وعلاء عبدالخالق وبالطبع عمرو دياب .
للقصة بقية :
يحكي عمرو دياب في إحدى حلقات سيرته الذاتية التي نشرها الكاتب يسري الفخراني منذ سنوات : كنت أقيم في فندق سياج بالهرم لارتباطي ببرنامج غنائي يومي هناك ، ذات صباح دخل علي غرفتي المنتج نصيف قزمان وألقى أمامي بألبوم اسمه “لولاكي” لمطرب يدعى علي حميدة ، وقال لي ” لو فاكر نفسك مكسر الدنيا ، اسمع الواد” ، وسمعت لولاكي وتيقنت أن شيئا ما سيجمعني قريبا بحميد الشاعري ، صانع هذه القنبلة ” .
انطلق عمرو دياب لتجهيز ألبومه الجديد “ميال” والذي صدر في ديسمبر من نفس العام ، تعاون دياب مع موزعه المفضل وقتها الموسيقار فتحي سلامة ، والذي وزع له أغنية ميال بعكس ما يتصور كثيرون أن ميال من توزيع حميد ، حيث اكتفى الأخير بتوزيع 4 أغنيات فقط هي ” مين غيرك ، توبة ، أول ما أقول ، ازيك ” ، إلا أن أغنية ميال كانت أشبه بنسخة جديدة من لولاكي من حيث ترديد الهتاف الشهير ” ميال ميال ” بعد الدخول بجملة ” من كام سنة وانا” ، ونجحت ميال بقوة ولكنها لم تمسح نجاح لولاكي بسهولة ، ولكن بصمة حميد كانت حاضرة مع كلمات عادل عمر الذي بدأ مرحلة جديدة مع صوت عمرو ، والذي بدأ بدوره مع حميد الشاعري مرحلة هي الأكثر بريقا في مشواره الفني ، وهذه قصة أخرى تستحق الحكي .