“يبدو يا قصب أنك محتاج إلى راحة طويلة”، جملة قاسية من أمرأة لرجل تعلم أنه يحبها، تُوجع القلب وتكسر النفس، صدمت عندما علمت أن أم كلثوم قالتها لمحمد القصبجي، ورغم حبي لهذه المرأة التى كبرت معها منذ المرحلة الثانوية حتى أصبحت أمرأة على مشارف الثلاثين، غضبت منها واتهمتها بالقسوة والتجبر، كيف تمكنت من جرح مشاعر “القصبجي” بتلك الطريقة؟!، هل تعاقبه على حبه لها؟، ومرت السنوات وعرفت أن “الست” فهمت الرجال فجعلت نفسها فوق قلبها.
لسنوات طويلة تعاطفت مع رجال أحبوا “ثومة” ووجدت فيهم المحب الحق، وانتهجت مذهبهم، ألقى بالبذرة الطيبة فى الأرض المنشودة وأرتشف الصبر يومًا بعد يوم فى انتظار ليلة الحصاد وقلبى ممتلأ باليقين أن من يزرع الطيب يحصد الطيب، ومع الوقت أدركت أن الحياة ليست مدينة فاضلة، ولا يمكننا تغيير الكون، ومهما زرعت بذورا طيبة لن تحصد إلا ما ينبض بباطن تلك الأرض، فالبركان لا يخرج ورودا ولكن حمما ونارا ، مدينتنا قاسية لا تعرف الحب.
فى مدينتنا لم أر الحب قط، كبرت بين نساء لم يكن لهن حظ مع الرجال، لم أرى رجلا بكى من أجل أمرأة أحبها ولكن رأيت جارتنا التى فى السادسة عشر من عمرها وهى تشعل النار في جسدها من أجل حبيبها الذى تزوج ابنة خاله إرضاءا لرغبة أبيه، لم أرى قيسا يبحث عن ليلاه، وجدت رجال أنانيين سريعوا الملل يتنقلون بين أمرأة وآخرى، يلهثون خلف شهواتهم ومصالحهم مغلفينها برداء الحب لستر بشاعتهم، وجدت نساء بائسات يقعدن على قارعة الطريق يراقبن المارة بحثا عن نظرة حب لم يجدوها فى عيون أزواجهن.
“أصون كرامتي من أجل حبي .. فإن النفس عندي فوق قلبي”، هذا ما كتبه أحمد رامي ونفذته أم كلثوم، كانت تعلم أنه يحبها ويكتب قصائده لها ولكنها لم ترغب فى الارتباط به خوفا من موت هذا الحب كانت تقول “أعلم أن رامي يعشقني، وكتب فيّ من القصائد ما لم يكتبه شاعر قديم في حبيبته، لكني لو تزوجته ستنطفئ نيران الشعر في أعماقه..علاقتي برامي قصيدة ونكتة ومجموعة أحاسيس”، لم تتجنَّى عليه فرامي قال ذات مرة ” أحببت أم كلثوم حتى التقديس ولم أندم على عدم زواجي منها، لو تزوجتها لم أكن أستطيع أن أقول فيها (سهران لوحدي أناجى طيفك الساري) وهى بجانبي في بيت واحد.
لم تقبل “الست” أن تجلس خلف محبوبها على كرسي خشبي وفي يدها العود، لم ترتضى العيش فى الظلام لتبقى بجانبه كما فعل القصبجي، لم تريد أن يكون حالها فى هواه عجب، وعندما أخبرها رياض السنباطي أن الملحن أحمد صبري النجريدي مازال يحبها رغم مرور عشرين عاما على رفضها طلبه بالزواج منها، قالت بكل ثقة “ياه هو النجريدي لسه عايش”، لم تقبل تلك السيدة القوية أن يضيع عمرها فى انتظار من لا يأتي، لم تكن قاسية ولكن أحبت نفسها وهى تستحق الحب، ربما علمت أنها لو أحبت “القصبجي” كان سيقول لها “أنتِ محتاجة راحة طويلة”.
الرجال ليسوا متشابهون، ولكن الخيبات واحدة، لي صديقة جميلة نتشابه كثيرا فى ما نمر به مع من نحب، تقابلنا قريبا فوجدتها فقدت بريق عينيها، لم ألفت انتباهها لذلك لأنه موجع للغاية، وعندما قال لها أحد أصدقاءنا “ما كل تلك الكآبة؟”، تذكرت قول بعض أصدقائي لي بأن وزني نقص كثيرا مؤخرا ويبدو علي وجهى التعب، أيقنت وقتها أن المشكلة ليست فى بعض الكيلوجرامات التى نفقدها ولا فى صمتنا ولكن فى انطفاء بريق عيوننا وهذا ما جعل “ثومة” تبقى على الرجال أصدقاء لا أحباب حتى لا تفقد بريق عينيها فى ذات ليلة بعد هجر الحبيب، هناك شيئا ما بداخلها جعلها تدرك أن الرجال فى الصداقة أكثر قربًا وفى الحب أشد ظلمًا، ووجدت نفسي أمسك بيد صديقتي وكأننا نرقص على ألحان صوفية نناشد فيها الله فهو المحبوب الذى لا يخذل.
صديقتى وأنا لا نحب الحزن، ولكننا اخترنا مذهب لا يناسب قسوة الحياة، لا نعرف العلاقات المؤقتة ولا نحتمل فراق الأحبة، نرتضي أن نتحول من رؤساء تخت شرقى لعازفين لا حول له ولا قوة لهم، ولكن فى زمننا لا تمنح السعادة إلا لمن يستغنى ويمنح الألم لمن يتمسك، وبعد مرور اثنين وأربعين عاما على رحيل “ثومة” أعتذر عن اتهامي لها بالقسوة وأعترف أن مذهبها هو الأصح، لا تتمسك بما لا تستطيع التخلى عنه فكل ما ترى فيه حياتك سيكون يوما سبب هلاكك، لا تنخدع بالبريق الأول فالسكين فى بداية لمسها ناعمة ولكن عندما تقبض عليها ستجرحك لا محال.
“إنما النساء رياحين متى لم تراعى، ذبُلت”، تلك الجملة للفقية ابن حزم الأندلسي، عندما يقولها رجل يصفق له الجميع، وسيدة الغناء العربي لم تعتاد أن تصفق لأحد وأحبت أن تسمع “عظمة على عظمة ياست”، وكأنها تقول لابن حزم ” ليس دائما تذبل ولكن قد تقسو ويصبح قلبها أصلب”، فعندما ترى أمرأة قوية لا تنخدع كثيرا وتحاول فك ألغازها لأنها ستبتلعك في متاهاتها دون رجعه، فخلف كل أمرأة تسند نفسها بنفسها، رجلا كسرها، أو خانها، أو أهداها الخيبات، ثمن كل ابتسامة بكاء عمر، هناك نساء لا يقبلن الذبول، فيحنطن قلوبهن ويخلقن منهن هياكل مقدس مغلقه بتعويذه الخذلان ومن يحاول دخول قلوبهن يهلك، ربما ابن حزم لم يكن رجلا يعطي الخذلان فلم يري تلك النساء، “كان رجلا لا يهدي إلا الحب”.