سأخبركم سراً: حين بدأ وحش الفيسبوك يخترق عالمنا منذ حوالي عشر سنوات،اعتبرته مساحةً للهو ،والتواصل مع الأصدقاء الذين باعدهم الزمن، وحين بدأ إتاحة كتابة مدونات قصيرة (notes ) تضايقت بشدة،حيث اعتبرت الأمر تجني على مهنة أحترفها،ولها قدسيتها، لا أخفيكم سراً أيضاً (بالمرة) ،أنني كنت أكره المدونات، واعتبرت أن هذا العالم أتاح لكل شخص غير مؤهل أن يقتحم عالم الكتابة، وهو فى رأيي مقدس، وكذلك الصحافة حيث اعتبرت أن كتابة ما يسمى بالخبر على الفيسبوك ،هو تجرء عليها ، سواء كان فى صيغة خبرية أو مدونة.
بعد سنوات طويلة تغير موقفي بالطبع، بعد أن فرض هذا الوحش شروطه، وأضحت لوسائل التواصل الاجتماعى سطوتها،وبات من العبث أن يتم تجاهلها بعد أن أصبحت رقماً فاعلاً في معادلة أحداث العالم،بل أصبحنا ندرب الصحفيين على التعامل معها كمصدر للأخبار،وكوسيلة للتواصل مع العالم بقواعد احترافية .
أما بعد ..
أود أن أعلن أنني وبعد كل هذه السنوات، لا زلت أرى أن عالم “السوشيال ميديا” هو خطر حقيقي على مهنة الصحافة لأسباب عدة، ليس المجال مناسباً لسردها جميعاً ها هنا ، ولكن..ما يخيفني حقاً، هو “عقدة الصحافة” عند كثير من رواد السوشيال ميديا، وربما لو أنهم أشخاص عاديين لما انتبه لهم أحد؛ لكن من يعمل بالصحافة يعرف جيداً أن لها سحراً لا يقاوم، وأنها تعطي من يخلص لها سراً لا يدركه إلا من ناله، فيرتوي بجرعة لا تعوض من التحقق المهني، وأغلب من مارس المهنة واستمر فيها، يعرف هذا الشعور جيداً، حتى من مر عليها لأعوام ولكن باحتراف يدرك ذلك، الخطر هنا..هو لدى من اشتهاها فلم ينلها، وظلت “عقدة الصحافة” تطارد أحلامه ، فيشعر أن العالم ينتظر منه الكثير فى وقت لا يراه فيه أحد أصلاً، ومن هنا ينشأ الوهم الذي يطارده فلا هو يصل إلى مبتغاه الوهمي، ولا هو يترك المهنة في حالها!.
“عقدة الصحافة” موجودة بصورة أخرى لدى صحفيين شباب لا يزالوان في بداية الطريق، لكنهم يحلمون بجني ثمار من سبقوهم بكثير، فيحترفون لعب أدوار غير حقيقية وتستجيب لهم الآلة الجهنمية لدى وسائل التواصل الإجتماعي، والتي للأسف تساهم في صنع كيانات وهمية، وشخصيات هلامية، وتسهم بشكل كبير في دعم الوعي المزيف الذي يستولى على مجتمعنا، وهؤلاء الشباب يتمتعون (مؤقتاً) ببريق شهرة يشبه ومض البرق :قد يعمي الأبصار لكنه سرعان ما يزول!
الركض خلف الشهرة، والبحث عن الأضواء بجنون دون الاستعداد لدفع الثمن ،هو أمر مرعب فهو يقود مجتمعنا لمزيد ومزيد من الوعي المزيف، والثمن الذي أقصده هنا ،هو التعب والجهد للزرع حتى يحين موعد قطف ثمار الجهد.
لعنة السوشيال الميديا التي تصيب مهووسي الشهرة، وعقدة الصحافة التي تصيب مهووسي مهنة لا تعطي سرها لمن لا يبيعها عمره في المقابل، مسماران في نعش أي محاولة لتأصيل وعي أصيل في مجتمعنا بشكل عام، ولدى شبابنا بشكل خاص، وهما في رأيي وجهان لعملة واحدة: كيف أكسب بلا تعب ؟.